كانت عذراء المشاعر والأفكار والروح والجسد، لحظة تذوقها لذة لقائهما الأول، الذى طالما انتظرته طويلاً، حين أهداها نفسه، فمنحته ذاتها بتلقائية خالصة، هى لا تريد منه شيئًا، فقط هى تحبه، ربما لا تمتلك الكثير، مما يعتبره الناس كنوزًا مبهجة، وممتعة، لكنه الأصدق، والأنقى، والأعذب؛ قلبها، وعقلها، وروحها، وجسدها، وعمرها.
لا تؤمن بالمستحيل فى «الحب»، أو حكايا الرحيل، والهجر، والغدر، والحرمان، والاشتياق، والألم، وكأن «الحب» زورق متهالك صغير، يبحر دومًا ضد التيار، وسط أمواج عاتية إلى مرفأ مجهول، ومهجور؛ لأنه فى يقينها التيار ذاته.
تؤمن بنفسها، وبوجوده، وبالحياة، وقدرتها على التحدى، والمغامرة، واجتياز المجهول، ومواجهة الأزمات، والعقبات، والانكسارات، مهما بلغت حدتها، وقسوتها، لتصل إلى مرفأ النجاة المعلوم، والمحتوم، والمحبور.
ربما أجمل وأروع ما فى «الحب» أنه تجربة غير عادية، وحالة غير مبررة، أو مشروطة، ولا تخضع لقوانين العقل، وحسابات المنطق، وتقاليد المجتمع البالية والصارمة، إلا أن كيان كل منا عادةً ما يضطرب، ويختل توازنه، ويقف عاجزًا فى مواجهته، ربما لأنه غير مؤهل، أو غير قادر على استيعابه، أو امتلاكه فى قبضته.
إن ارتجاجات «الحب» العنيفة تؤثر دومًا فى أقدارنا، وخياراتنا، وكثيرًا ما ينهزم بمجرد دخوله فى تجربة «الزواج»، ربما لأن مشاعره المتدفقة، والمتوهجة، والمتحررة، لا تتحمل عبودية، وسجون الزواج المعتمة، والمتحجرة، التى صنعناها بأنفسنا لأنفسنا.
فى البداية تعرفت على «الحب» بمعناه الواسع فى «كلمتين» من «د. وفاء إبراهيم» أستاذة علم الجمال بكلية البنات جامعة عين شمس، تقول: «الحب» حرفان، هما «الحاء» و«الباء»، أى «بداية حياة» .
كتبت فى بداية أحد مقالاتها البارزة بجريدة الأهرام: لا أحد ينسى مشهد «الأراجوز» الفارق فى حياة بطلة فيلم «الزوجة الثانية» للمبدعة «سعاد حسنى»، فقد حرك خيال البطلة، لتبدع وجودًا مشرقًا، يضىء قتامة الحاضر .
جاءت هذه العبارة فى سياق مختلف، لكنها جعلتنى أتساءل: هل نحن الآن فى حاجة مُلِحة إلى مُلهِم، ومُحرِّض قوى، يحرك خيالنا، كى نُبدع وجودًا أرحب، يحررنا من سجون الحاضر، ولم لا يكون هذا المُلهِم هو «الحب»، الذى يردد الكثيرون أنه لم يعد له وجود؛ والسبب هو فشلهم فى فهمه، واستيعابه، أو عدم امتلاكهم شجاعة انتزاعه
يبدو موضوع «الحب» و«الجنس» أمرًا مشوشًا للغاية، مما جعلنى أتساءل: لمـاذا إذن نتزوج؟! وممن نتزوج ؟! إن إجابة كل منا هى النتيجة التى سيصل إليها، أما إجابتى: سأتزوج ممن أحب، من يملأ العقل والقلب معًا، حتى إذا كان الثمن أن أظل بمفردى طوال العمر، ولن أظل!
إن الوصول إلى الأشياء الثمينة ليس سهلاً، أو عاديًا، والوحيد هو من يشعر بالوحدة والغربة فى وجود أقرب الناس له، ربما تتفق، أو تختلف معى، لكن الأهم أن يكون كل منا قادرًا على أن يفعل ما يؤمن به.
يجيب «عباس العقاد» على سؤال: ما هى فلسفتك فى الحب؟-(إن تعريف الشىء بالنفى أسهل من الإيجاب؛ فمن السهل أن أقول هذا الشخص ليس «العقاد»، أما إذا قلت هو «العقاد»، فينبغى أن أضيف من هو «العقاد»)- قائلا: («الحب» ليس «غريزة»، لكنها أحد عناصره؛ لأنه إذا كان «غريزة»، سيشتهى الرجل كل نساء العالم، وستشتهى المرأة كل رجال العالم، أما «الغريزة» فى «الحب» فهى اشتهاء إنسان بعينه، كما أن «الحب» ليس «صداقة»، وإن كانت أحد عناصره، التى تنمو بنموه، إلا أن «الصداقة» بمعنى «التفكير بصوت مسموع»، لا تأتى فى مراحل «الحب» الأولى، بل بعد اشتداده، وتوهجه).
ويرى أن «الصداقة» فى أقوى صورها، تكون بين شخصين من نفس الجنس، أما «الحب» فى أقوى صوره، فيكون بين رجل وامرأة، كما أن «الحب» ليس اختيارًا، بل قدرًا، لأن المرأة قد تختار رجلاً، وتحاول أن تحبه، فلا تستطيع، والعكس صحيح، لكن المثير أن الإنسان قد يجد نفسه فجأة واقعًا فى «الحب»، دون أن يدرى، ويحاول تخليص نفسه، فلا يستطيع، فالحب يكتنفه الغرور، لأنه اختص اثنين، يفضل كلاهما الآخر بعينه، دون سواه .
يرد «العقاد» أيضًا على سؤال : هل «الحب» أمنية نبتغيها، أم مصيبة نتقيها؟! : «هو مصيبة، واجبة الاتقاء؛ إذا كنت تحمل به نفسًا تريدها، وهى لا تريدك، لكنه أمنية عزيزة المنال؛ إذا كانت بين روحين متجاوبتين، وفى تلك الحالة يكون الحبيبان غرقى فى سهوة من سهوات العمر والأيام».
وأجدنى أختلف معه فى أن «الحب» مصيبة، واجبة الاتقاء؛ لأنه ليس من المنطق أن يصيب نصفًا دون الآخر؛ فقد خُلق من أجل سعادة البشر، وإمتاعهم، وليس لشقائهم، وإتعاسهم، أما كونه أمنية عزيزة المنال؛ فهذا لاقتضائه مهارة القفز إلى مكانة إنسانية أعلى، وأنبل، وأرقى.
فى النهاية يوجد ثلاثة أشياء تَملُكنا، ولا نَملُكها، وتَخْتارنا، ولا نَخْتارها؛ لحظة «الميلاد»، ولحظة «الموت»، ولحظة «الحب»، فالحياة تُمنح فى الأولى، وتُسلب فى الثانية، وتَتَجدد فى الثالثة.