عندما بدأت كتابة هذه المذكرات فى البوابة نيوز سجلت ما كان قد مر بى، ومنه أن رقابة التليفزيون رفضت بقوة تمثيلية تعرض موقفا بين جندى إنجليزى وقع أسيرا أثناء المعركة وشابة انتظرت لعل أحدهم يأتى قبل أن يأتى الأعداء ويقبضوا على أخيه.
وعندما وصلت لنهاية المسرحية وعند الذروة تماما وبينما البطلة قد استنفدت موقف الاختيار التراجيدى الذى وجدت نفسها فيه وصارت مجبرة أن تأتى فعلا أيا ما كان جعلت الممثلين، يتوقفان عن التمثيل ليعلنا للجمهور أن المؤلف توقف عند هذا الحد وترك لهم المشكلة ثم يسدل الستار. وبالطبع لم يكن يستطيع أن يقدمها أى أحد عندنا.
وبعد ثلاثة شهور فقط وقعت حرب يونيو كما تنبأت لها، فقدمت العمل
كتمثيلية للتليفزيون وجعلت أحداثها تقع أثناء حرب ٥٦ وقلت ربما قبلوها إذا أدخلت عليها تعديلا بسيطا. فغيرت العنوان من (الأسرى) الذى يعنى أن كلا من الجندى والفتاة أسيران إلى (الأسير). ثم وقفت بالنهاية عند اللحظة التى اعتقدت فيها الفتاه أنها قتلت الجندى، غير أن رقابة التليفزيون رفضتها رفضا قاطعا. أدركت عندئذ أنها لن تجسد على المسرح لمدة لا أعلمها وجعلنى ذلك أنساها فظلت أسيرة درج مكتبى.
وفى عام ٢٠٠١ تذكرتها ورأيت أنها صالحة للتعبير عن الموقف الراهن بعد ٢٤ عاما على كتابتها، وكأن الزمن لم يمر. بالطبع أعدت صياغة بعض
سطور الحوار وأجريت بعض اختصارات بسيطة لتنشر ضمن مجلدات أعمالى الكاملة. ثم تم اختيارها لتعرض ضمن مجموعة مسرحيات من مصر ودول عربية أخرى فى عرض واحد على مسرح (بيتى نانسي) فى ديسمبر عام ٢٠٠٢، ورغم حضورنا لهولندا أثناء البروفات المبدئية، لم يدَعونا جميعا لمشاهدة العرض. وبهذا تكون هذه المسرحية القصيرة التي
كتبتها دفعة واحدة فى فبراير عام ١٩٦٧ وقتها وكنت فى عامى الأول بمعهد الفنون المسرحية ولم أتجاوز العشرين، وكان الجو فى منطقتنا ينذر بوقوع حرب بين مصر وإسرائيل لم أكتبها لأنشرها أو أعرضها، فلم تكن أمامى أى فرصة لذلك. ولكنى كتبتها لنفسى. كنت ومازلت أكره الحرب وأكره السياسة. لذلك حاولت أن أتجاوز الواقع المعاش لكى أرقبه بنظرة الطائر المحلق من أعلى.
فى الحقيقة كنت أحاول أن أحل مشكلتى أنا بكتابة هذه المسرحية، وكانت مشكلتى كيف أوفق بين كراهيتى للعنف وبين الحرب المحتملة مع إسرائيل و الإنجليز والفرنسيين ولكنى كتبتها بين فتاة مصرية وجندى إنجليزى أسره بعض الفدائيين فى بورسعيد (وهى واقعة حقيقية عندما أسر جندى كان ينتسب للأسرة الملكية فى انجلترا ولم يعثر على جثته إلا بعد جلاء الإنجليز). (الأسري) إذن هى أقدم عمل كتبته تقريبا وعرض بالفعل حتى هذه اللحظة ولما طلب منى تقديم عمل لى بالإنجليزية اخترتها، ولكنى عرضتها مرتين بالإنجليزية ثم بالعربية بعد استراحة قصيرة ولمدة أسبوع ثم عرضتها فى هولندا وكذلك فى كندا. وقد وجدت أنها تناسب الاحتفال بحصولى على جائزة الأمير كلاوس، والسؤال الذى يشغلنى: إلى متى تظل هذه المسرحية تعبر عن الموقف الراهن؟.
كلمتى فى حفل جائزة الأمير كلاوس فى ٢٥ يناير ٢٠٠٦
عندما أتأمل حصولى على جائزة الأمير كلاوس لا أجد فى الأمر أى دهشة. حقا هى جائزة من هولندا وأنا من مصر. ولكن اسمى من روسيا.
لم يكن لأبى وأمى أى علاقة بروسيا ولم يذهبا لأرضها يوما لكنهما رأيا أن هناك ما يربطهما بفكر إنسان آخر يعيش على بعد كبير من الوطن ولهذا لم يترددا لحظة أن يطلقا اسم لينين الروسى على وليدهما البكر.
ولكن الابن عانى مبكرا من الإحساس بالاغتراب. وكانت الكتابة طريقته فى التغلب على هذا الاغتراب وتجاوزه. فالكتابة إحدى وسائل الاتصال بالآخر. ولكن الابن كوالديه لم يكن الآخر بالنسبة له الناس الذين يعيشون فى وطنه فقط. لذلك كتب كما يكتب الناس رسائلهم ويضعونها فى زجاجة يلقونها فى البحر. وقد التقطها البعض فى وطنه ولكن زجاجته وصلت أيضا إلى شواطئ هولندا.
وتعنى الجائزة لى أنه رغم حاجز المكان واللغة وجزء من التراث، فهناك أشياء مشتركة بيننا فى مصر وبين الآخر فى هولندا أو بين هولندا وبين الآخر فى مصر. وسعادتى أن أكون واحدا ضمن كثيرين يشكلون حلقة الوصل بين الناس وبعضهم فى كل أنحاء العالم.
ولهذا لا أشكر الجانب الهولندى على السعادة التى منحوها لى بحصولى على الجائزة فقط، لكنى أشكرهم على فكرة الجائزة فى حد ذاتها والتى خصصوها لإفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. وأقول: لقد وصلت رسالتكم إلى شواطئنا. وقبل أن أغمض عينى سأقول لأولادى: احلموا بيوم يسبح فيه كل البشر فى بحر واحد.