تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
نختلف أو نتفق حول السياسات والقرارات والإجراءات التي تتبناها الحكومة أو النظام الحاكم في إطار ضوابط وقواعد الصراع السياسي لحساب الوطن وسعياً للأفضل، ومن هنا يقدم كل فصيل رؤيته ومبرراته للشارع لاكتساب ثقته عبر صناديق الاقتراع، ومن هنا يتم تداول السلطة والمواقع، وتظل الحيوية السياسية قائمة تحفز كل طرف على تقديم أفضل ما عنده في ترقب لرد فعل الشارع.
على أن الواقع المعاش ليس بهذه الطوباوية في ظل عدم اكتمال الوعي بالديمقراطية لدى النخب والعامة لأسباب عديدة، منها ما هو تراكمي ومنها ما هو متعلق بتراجع منظومات تكوين الذهنية العامة إعلاماً وتعليماً وثقافة بتنويعاتها ودرجاتها، فضلاً عن ارتباك اللحظة، وما يدور خلف الأبواب وغياب الشفافية، وحالة التربص المتوحش وانهيار رقائق الثقة المتهافتة ابتداء.
ومما يزيد أزمة اللحظة تفاقمًا، قراءة التجارب المثيلة التي وصل فيها طيف من الجماعات الإسلامية إلى سدة الحكم عبر صناديق الاقتراع وانقلابها على آليات الديمقراطية، حتى قبل انقلابات ما سمي، خداعاً، الربيع العربي.
ولعلنا مازلنا نتذكر التجربة الجزائرية والتي فاز فيها حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ بأغلبية ساحقة في انتخابات المجالس البلدية والولائية (مجالس الولايات)،953 مجلسا بلديًا من أصل 1539 و32 مجلسا ولائيًا من أصل 48، وواصلت اكتساحها في الانتخابات البرلمانية في ديسمبر 1991 إذ حصلت على 188 مقعدًا من أصل 231 بنسبة 82%، ورغم الشعارات البراقة التي رفعها قادة الحزب فإن ممارسات الحكم كانت مفارقة لتطلعات الشارع، وزاد من تخوفات الشارع تصريحاتهم بأنهم جاءوا ليبقوا، وأن الانتخابات والصناديق التي جاءت بهم هي آخر عهد الجزائريين بالديمقراطية، فجاء رد فعل الشارع متسارعاً ومتصاعداً، بدأ بالمظاهرات والاعتصامات، وانتهى باعتصام مفتوح إلى أن تدخل الجيش وانقلب على النظام وأعلن حالة الطوارئ، وحل الحزب الحاكم لتدخل الجزائر في نفق الحرب الأهلية التي امتدت لسنوات.
وعلى التخوم الشرقية، نقرأ تجربة فلسطينية مثيلة عبر ما فعلته منظمة “,”حماس“,” التي هي اختصار لمسماها “,”حركة المقاومة الإسلامية“,” والمرتبطة أيديولوجياً وجذوراً بجماعة الإخوان المسلمين المصرية، وهي عضو بارز ومتقدم تنظيمياً في تنظيم الإخوان الدولي، وعندما خاضت الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2005 حصدت أغلبية، 67 مقعدًا من أصل 132، أهلتها لتشكيل الوزارة، وعلى نفس النهج تتصارع مع الفصائل الفلسطينية الأخرى، وعلى رأسها منظمة فتح، وتدور بينهم رحى المصادمات لتستقل حماس بغزة، وترفض العودة للصندوق، وينحت لأول مرة في القاموس السياسي تعبير “,”الحكومة المقالة“,” وتستحوذ على السلطة على حساب القضية الفلسطينية، ويصبح قتلى الصراع الفلسطيني الفلسطيني متجاوزة شهداء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
فإذا عدنا للمشهد المصري المرتبك نستشعر أننا غير بعيدين عن تكرار التجربتين، ومن خلال متابعة وقراءة الحراك الحزبي والإعلامي لكوادر تيارات الإسلام السياسي لا يمكن إغفال إصرارهم على نقل الاختلاف مع النظام الحاكم إلى خلاف مع المشروع الإسلامي وكأنه الممثل الحصري للإسلام، وعلى مستويات متعددة تسير في مسارات متوازية يتأكد سعي اختطاف الوطن إلى رؤيتهم المفارقة للمسار الحضاري والمصادر للتنوع المصري، ولعلنا مازلنا نتذكر الدعوات التي خرجت لتطالب بالتصريح لشباب الإخوان بحمل السلاح، وهو مطلب لم يجد قبولاً لدى القوى السياسية المدنية في مجملها، فسكتوا عنه لنفاجأ بتقديم مشروع قانون إنشاء شركات للحراسات الخاصة إلى مجلس الشورى، وبحسب التصريحات المنسوبة للمستشار عمر الشريف، مساعد وزير العدل لشئون التشريع، فإن الغرض من هذه الشركات تخفيف العبء عن كاهل وزارة الداخلية، فهل نحن أمام شكل جديد من أشكال الخصخصة للشأن الأمني؟ وهل نحن أمام إرهاصات تقنين المليشيات المسلحة، فيصير من حق الأحزاب المختلفة تكوين (تشكيلات أمن)، المسمى الحقيقي لشركات الحراسة وتحت مظلتها، يصرح لها بحمل السلاح لحمايتها، وكذلك القوى الاقتصادية والجمعيات والمنظمات المختلفة!!، ماذا لو اختلفت هذه التشكيلات مع بعضها؟ وماذا لو اختلفت مع قوى الأمن الرسمية؟ وماذا عن مستوى التسليح ومصادره؟ هل يمكن أن نفيق يوماً على تكرار تجربة الميليشيات اللبنانية وما تفعله على الأرض هناك؟ ماذا لو جاءت الانتخابات يوماً بالمخالفين لحكام اليوم، هل سيتصدى شباب كليهما لحساب فصيله؟
مصر، يا سادة، دولة مركزية لا تعرف التقسيم القبلي او العرقي أو الطائفي، ويربطها شريان الحياة السرمدي، النيل، الذي لا يقبل القسمة ويضفي على مصر نسقها المركزي الحتمي، فكيف نحيل الأمن إلى التقسيم؟ وما هو مفهوم التخفيف عن وزارة الداخلية؟ الأجدى بالسادة المشرعين والتنفيذيين حماية وزارة الداخلية من انتزاع صفتها القومية والحيادية والمهنية، أليس من الأجدى مواجهة مطالب بعض من كوادرها وضباطها الملتحين بحقهم في إظهار هويتهم الدينية التي تكسر حياديتهم بشكل سافر، وترسل رسائل غاية في الخطورة للشارع؟ ماذا لو طالب الضباط المسيحيون بنفس المطلب في إظهار الصليب مثلاً؟ وماذا عن التداعيات المترتبة على ذلك؟ نحن أمام ترجمة صارخة لتفشي فكر التطرف والتقسيم الحثيث لوطن يرتهن بقاؤه بوحدته.
تقنين المليشيات المسلحة، بمسميات مخادعة ومراوغة، جريمة لن يغفرها التاريخ.. وستكون الحرف الأول في لافتة تقول: “,”كان هنا وطن“,”.