لم أكن أعلم أثناء كتابة مقالى «فن صناعة الكراهية»، المنشور فى نفس المساحة بتاريخ ٢ أكتوبر الجارى أن ردود الفعل، حول فكرة المقال، ستتجاوز رغبتى فى إلقاء الضوء على واقعة بعينها، وتمتد إلى مساحة، أكثر شمولا، باعتبارها قضية مجتمعية، كما لم يجل بخاطرى، ولو لحظة عابرة، أنها ستكون محورا لنقاش نخبوى وإعلامى واسع، سينتقل صداه إلى المؤسسات الرسمية «البرلمان ووزارات الداخلية والعدل والتخطيط».
تحدثت عن الاستغلال المنبوذ لمصطلح «تشابه الأسماء»، وكيف صار وسيلة بغيضة فى أيدى معدومى الضمير، يقومون بتوظيفه لإشباع رغبتهم فى الغطرسة و«المنظرة» على خلق الله، دون دراية بأن أفعالهم تدفع المجتمع إلى الإحباط والوصول به إلى ذروة الغضب، فضلا عن عدم إدراكهم بأن التصرفات العشوائية، كفيلة بتوسيع الفجوة بين المواطن العادى «قليل الحيلة» ورجل الشرطة المسئول عن حمايته وأمنه، وصولا لاتهام الجهاز الأمنى برمته وتشويه صورته بزعم أن التجاوزات ممنهجة.
مضمون ما أوردته يدور فى إطار انتقاد سياسات حكومة أدمنت الفشل، تسىء لنظام الحكم، وتحرض فئات الشعب على كراهيته، بما يؤدى إلى تآكل شعبيته، عبر تجاوز بعض أفرادها حدود وظائفهم والمسئوليات الملقاة على عاتقهم، ورغم التأكيد على أنها تصرفات فردية، تخضع للمساءلة والمحاسبة، إلا أن تكرارها أصبح مزعجا، وينذر بتداعيات خطيرة، كافية بأن تجعل سلطات الدولة بأكملها فى مرمى سهام اتهامات شرائح من المجتمع، تعتقد أن الصمت على تكرار التجاوزات تعبير عن الرضا الفوقى، وعدم الردع السريع للمتجاوزين، تواطؤ عمدى، هدفه إرهاب المواطنين، ودهس كرامتهم.
هناك جانب آخر لا يمكن القفز عليه أو تجاهله،إذا كانت مثل هذه الوقائع وسيلة منبوذة، فهى، أيضا، مغنم لبعض دعاة الفوضى، ينفخون فى نيرانها لترسيخ مقولات جائرة عن الدولة البوليسية والقمع وإهدار حقوق الإنسان، وغيرها من المصطلحات المحرضة على الدولة من ناحية، وجذب الذين ذاقوا المهانة إلى صفوفهم عبر ترسيخ منطق الانتقام من ناحية أخرى.
القضية خرجت من الدائرة الضيقة، الخاصة بالواقعة، وامتدت إلى براح متسع، تشكلت مجموعات مفتوحة على مواقع التواصل الاجتماعى، كما جرى تدشين حملة شعبية، مصحوبة برغبة نبيلة، شعارها «لا لتشابه الأسماء»، هدفها إقران الرقم القومى باسم المحكوم عليهم فى الأحكام الصادرة من القضاء، لمنع الالتباس عند تنفيذها، أو استغلالها فى إهانة المواطنين بصورة تساهم فى زيادة الاحتقان، خصوصا مع تنامى الدعوات المشبوهة لإحداث القلاقل وإرباك الدولة.
اتسع نطاق التفاعل الإيجابى مع الحملة، وانضمت إليها شرائح متعددة، فضلا عن انتقالها إلى وسائل الإعلام «المواقع الإلكترونية والقنوات الفضائية» التى خصصت فقرات فى بعض برامجها، لطرح القضية على مائدة النقاش السياسى والقانونى.
وصلت أصداء الحملة الشعبية إلى البرلمان، حيث جرت مناقشة القضية بين الدكتور على عبدالعال رئيس المجلس والنائب وائل الطحان، بحثا عن وسيلة ملائمة لإدراج الرقم القومى فى الأحكام القضائية مقترنا بالاسم، خصوصا الأحكام الحضورية واجبة النفاذ، للحد من تكرار وقائع القبض على مواطنين أبرياء من قبل أقسام الشرطة ومباحث تنفيذ الأحكام، جراء تشابه الأسماء.
الدوائر الأمنية لم تكن بعيدة عن التفاعل الإيجابى، على أثر نشر المقال، تلقيت اتصالا هاتفيا من مسئول أمنى مهم، يريد معرفة تفاصيل وأسماء أطراف القصة المتعلقة بواقعة القبض على شاب مشهود له بحسن الخلق، وعندما لم يجدوا شيئا يدينه، زعموا صدور حكم نهائى ضده ومطلوب تنفيذه، الأمر الذى أدى إلى استياء النيابة العامة من هذا الفعل، وأخلت سبيله على الفور، قال مداعبا إن له بعض التحفظات على عنوان المقال «فن صناعة الكراهية»، ثم أردف، الفن قرين الإبداع، لكن مضمون الواقعة التى سردتها تؤكد أن من يصنع الكراهية أحمق، والحمقى لا يبدعون، هم عشوائيون يتصرفون بعنجهية، فيثيرون الأزمات، أما المبدعون فلديهم قدرة على الاحتواء واستخدام العقل فى التفرقة بين البرىء والمجرم.
تعليقاته لفتت انتباهى إلى أبعد من القضية موضوع الواقعة، فهو توقف عند جزئية كنت أظنها هامشية، لا تؤثر بحال من الأحوال على الموضوع المثار بيننا، وهى المرتبطة بالمأمورية التى صاحبتها القوات الخاصة.. ومضمونها كيف يمكن التوقف فى الشارع مهما كانت الأسباب؟.. فهمت أن المحاسبة أحيانا لا تكون وقتية.
يدرك صانعو القرار فى وزارة الداخلية حجم تداعيات التصرفات غير المسئولة وتأثيرها السلبى على المستوى العام، لذا فإن الوزارة بحسب اتصالات مع قيادات بارزة، لا تدخر جهدا فى ردع المتجاوزين.
فى هذا السياق تبدو مطالبتى للحكومة وبالأخص وزارة الداخلية تبنى هذه الخطوة، وتصبح صاحبة المبادرة فى تطوير العمل الشرطى وفق أسس ومعايير عصرية، لمنع اللغط المترتب على الممارسات الخاطئة الصادرة من بعض الأفراد، وتفويت الفرصة على المتربصين من استغلال هذه الوقائع الفردية والترويج لها إعلاميا على القنوات المشبوهة، والنفخ فيها بهدف إدانة الدولة المصرية أمام المجتمع الدولى، رغم أن وزارة الداخلية هى ذاتها من يردع المتجاوزين.
فضلا عن أن المهام الملقاة على عاتقها تدعوها للاهتمام بهذه القضية حتى لا تتشتت جهودها فى أمور عبثية.
يكمن العجب فى استغلال قضية تشابه الأسماء، أن المطلوبين فعلا لتنفيذ الأحكام يمرحون فى الشوارع، ليل نهار، ومعلومون لوحدات المباحث بأقسام الشرطة، لكنهم يجيدون تطبيق شعار «تفتيح المخ»، فضلا عن أن الأمناء يعلمون تفاصيل كل القضايا فى دوائر عملهم، وسبق لهم المشاركة فى القبض على مرتكبى الجرائم، لأنهم يعملون سنوات طويلة داخل أقسامهم، ولديهم دراية كاملة بقوائم المجرمين، لكنهم يتغاضون عنهم، ويبتكرون كل ما هو شائن بحثا عن أسماء شبيهة، تحقق غرضين أولهما المنافع الخاصة، وثانيهما إغلاق ملفات القضايا المفتوحة لذوى العلاقات المشبوهة، إلى جانب الإغفال العمدى لبيانات الرقم القومى أثناء تحرير محاضر الضبط، رغم إبراز تحقيق الشخصية «بطاقة الرقم القومى»، لكن من الممكن إيجاد حل لهذه الإشكالية، والحلول بسيطة ولا تحتاج إلى فك شفرات، يمكن اللجوء إلى البصمة لمعرفة البيانات الحقيقية للشخص والاستدلال من الأحوال المدنية عن الرقم القومى، واقترانه بالاسم، ومحل الإقامة، حتى لا يتعرض الأبرياء لمعاناة نفسية ومالية يتكبدها الكثيرين من غير القادرين على تكاليف أتعاب المحامين لإثبات أن الأحكام لا تخصهم.
ما زلت أكرر وسأظل أكرر المقولة ذاتها، إن الدولة القوية تفرض هيبتها على الكافة، بإعلاء القانون، تمنحه السطوة فى مواجهة العبث، تنتصر به على الإرهاب والفوضى وقوى الظلام، تطبقه على الجميع، لا فرق بين كبير وصغير، غنى وفقير، صاحب سلطة، ومواطن بسيط، أما إذا جرى تغييب القانون، فقل على هذا البلد السلام.