كلما هل علينا شهر أكتوبر نتذكر آخر حرب «نظامية» خاضها العرب ضد إسرائيل منذ ٤٣ عاما عندما قال عنها الرئيس المصرى الراحل أنور السادات: «إن حرب أكتوبر هى آخر الحروب» بعد توصله لاتفاقية سلام مع إسرائيل، فقد أثبتت الأيام أنها ليست كذلك، ولم يكن السادات مدركا أن التغيرات التى ستسود العالم ستقلب مفهوم الحرب رأسا على عقب، بمعنى أن عالم اليوم يشهد حروبا، لكنها ليست بالمعنى التقليدى للكلمة، أى جيوش فى مواجهة جيوش، ولعل الرئيس الإسرائيلى الراحل شيمون بيريز استطاع أن يفكر بعقلية «الثعلب» لكى يحول السلام مع العرب إلى حرب من نوع آخر، تلعب فيه التكنولوجيا والدبلوماسية الدور الأكبر، حيث تتم تنحية الآلة العسكرية واستبدالها بآليات أخرى أكثر نعومة وأكثر دهاء.
من بين هذه الآليات التعاون المتبادل الذى يهدف إلى اختراق الدول العربية من غير حشد أو مواجهة عسكرية دون خسارة جندى واحد من خلال الاقتصاد الذى يعد عصب الحياة، ومن هنا جاءت دعوة شيمون بيريز تحت مسمى «الشرق الأوسط الجديد» التى نومت البعض تنويما مغناطيسيا فى العسل المغموس بالسم، ويمكن القول إن كلمة «جديد» تم توظيفها لكى تكون محاولة خبيثة لإضفاء السياسة وأطماع إسرائيل التاريخية على الجغرافيا، باعتبار أن الشرق الأوسط منطقة جغرافية محددة غنية بالموارد الطبيعية والبشرية.
ومؤدى استخدام هذه الدعوة هو فى واقع الأمر طرح فكر جديد يربط بين ما يسمى التكنولوجيا الإسرائيلية وإعادة اكتشاف الحجم الحقيقى للموارد العربية، بعد أن أخفق العرب وعلى مدى عقود طويلة منذ الأربعينيات من القرن الماضى فى تحقيق التكامل الاقتصادى فيما بينهم، بل وفشلوا فى إنشاء السوق «العربية» المشتركة، فى حين نجح الأوروبيون فى إنشاء السوق «الأوروبية» المشتركة فى نهاية خمسينيات القرن العشرين. واستطاع الأوروبيون أن يحولوا السوق المشتركة – كتجمع اقتصادى - إلى اتحاد سياسى واقتصادى وفق معاهدة «ماستريخت» عام ١٩٩٢، أى قبل أن يسدل القرن العشرون أستاره، ليضم ٢٧ دولة بعد انسحاب بريطانيا منه هذا العام، لهذا استغل شيمون بيريز - بطل مذبحة قانا لونسينا- الإخفاق العربى لكى يقوم بعملية اختزال العروبة كواقع وهوية بالشرق أوسطية، لتصبح واقعا جديدا وهوية غير عربية تمكن إسرائيل من التسرب إلى دول المنطقة بسهولة تحت عباءة السلام تارة، وتحت ادعاءات التعاون الاقتصادى بين دول المنطقة تارة أخرى.
وفى عام ٢٠١٠- ٢٠١١ اندلعت ما سميت ثورات الربيع العربى فى تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، ولم تكن هذه الثورات طقسا ربيعيا على الإطلاق إنما كانت نذير عواصف داهمة وتطبيقا عمليا على الأرض لنظرية «الفوضى الخلاقة» التى تبنتها الولايات المتحدة، ولم تكن سوى نسخة أخرى مطورة وأكثر شمولا من نظرية بيريز المتعلقة بالشرق الأوسط الجديد.
وإذا درسنا بعمق الخريطة السياسية الحالية للعالم العربى سرعان ما نكتشف بعد خمس سنوات من الربيع أننا أمام حروب جديدة ومن نوع مختلف عن حرب أكتوبر! وهنا نطرح سؤالا... هل اختلف العدو فى الحالتين؟
نقول كان العدو فى حرب أكتوبر واضحا ومحددا ويتم التعامل معه وفق قواعد الحرب التقليدية المتعارف عليها، لكن حروب اليوم دعونا نصفها بأنها غير أخلاقية وغير إنسانية، لأنها باختصار تجعلنا نقف أمام عدو «زئبقى» الحركة من الصعب وضع اليد عليه، أو «ضبابى» من الصعب تحديده أو رؤيته أو «آداة» فى أيدى قوى عظمى تتحكم فى خيوطها بأسلوب تحريك وسيطرة عرائس «الماريونت».
إذا أغفلت المحرك خسرت المعادلة بأكملها، وربما هذا يفسر لنا لماذا ظهرت «داعش»، ويفسر بالتالى طبيعة الأحداث فى سوريا وليبيا، ويجعلنا ندرك أهداف الحملة الشرسة على المملكة العربية السعودية ومصر، ويفسر لنا أيضا وبكل وضوح أن إسرائيل هى المستفيد من كل ما حدث ويحدث على الساحة العربية.
بل دعونا نقول إن محددات حروب اليوم تفسر كذلك أطماع أطراف إقليمية أخرى فى المنطقة، وعلى رأسها إيران التى تغذى روافد الإرهاب تحت شعارات طائفية وتصب الزيت على النيران فى بؤر الأحداث الساخنة فى العالم العربى، وفى مقدمتها سوريا التى كلما اقتربت أزمتها من الحل السياسى الذى يحقن الدماء نجد حكام طهران يشعلون فتيل العنف من جديد، والخاسر بالطبع هو الشعب العربى السورى.
خلاصة القول إن شهداء الأمة العربية الذين سقطوا فى حرب أكتوبر وما قبلها من حروب منذ عام ١٩٤٨ من مصر وأشقائها العرب أقل بكثير من الشهداء الذين سقطوا من جراء حروب الفتنة واقتتال الشعب الواحد فى السنوات الأخيرة فى بعض الدول العربية، ومن حروب استخدام القوى الناعمة فى ضرب الاقتصاد العربى ووحدة الصف العربى، ولهذا عفوا أيها الرئيس الراحل «أنور السادات» إن حرب أكتوبر لم ولن تكون آخر الحروب!!