فى صبيحة هذا اليوم توجهت إلى هناك..
كل «أحدٍ» كنت أتوجه إلى هناك
أكون على الهواء فى تمام الرابعة عصراً لتقديم برنامج كان عنوانه «كلام جرىء» ولم أكن أدرى أن جرأة وجبروتا أعظم كان يحدث أسفل المكان الذى كنت أجلس فيه وغادرته بعد الواحدة صباحاً عندما أُذن لنا بالمغادرة خوفاً على سلامتنا وأرواحنا.. فى حين كانت أرواح أخرى كأرواحنا وربما أجمل تزهق فى الأسفل ولا ندرى نحن عنها شيئاً فى حصننا المنيع!
وبعد عام بالتمام والكمال كنت أيضاً هناك أقدم ذات البرنامج ولم أكن أعرف أو أدرى أن يوم التاسع من أكتوبر سيكون يوما مشهودا فى تاريخ بلادى بل فى تاريخى الشخصى.
ظهرت معى لأول مرة على شاشة التليفزيون المصرى سيدة فضلى تكبدت مشاعر جمة وهى تخطو بقدميها لدخول مبنى ماسبيرو بعد عام من الدماء الزكية التى سالت أمام أرضه التى نخطوها بأرجلنا كل يوم.. إنها السيدة «مارى دانيال» الصعيدية البسيطة الأصيلة الأبية النقية التى جاءت لتنعى أخاها الأصغر أو بعبارة أدق «ولدها» الذى لم تنجبه لكنها ربته وأحسنت تربيته وتناجيه للآن ولآخر العمر مناجاة تحرك دكك غسل الموتى ولكن القتلة لا تهتز لهم قصبة.
تفتقد «مارى» كما يفتقد الوطن « «شهيده» وشهداءه الـ ٢٧ الذين فارقونا لمجرد أنهم من دين آخر.. يصلون بشكل آخر ويدفعون العشور ويصومون نصف العام وأكثر أناس أحبوا الوطن فأدار لهم ظهره فى لحظة قاسية وفارقة ستظل فى التاريخ والضمير والوجدان لليوم المعلوم حين ترد المظالم.
التاسع من أكتوبر هو يوم أسود فى تاريخ بلادى.. يوم أسود تكسوه حمرة الخجل ولون الدماء الزكية.. يوم فر فيه المصرى من أخيه وعاداه وقتله وقتل معه الناس جميعاً.. يوم لم أكن أتوقع أو أتخيل أننى سأشهده.. وأكون من الشاهدين عليه وليتنى ما كنت.
ذكرى اليوم الأليم تلوح دوماً فى مخيلتى وتقض مضجعى.. ما زلت أندهش.. لم أفقد بعد طاقة الدهشة بعد كل ما مررت به.. وربما هى رغبتى الدفينة فى أن أظل أشعر وتنتابنى الأحاسيس بدلا من أن أحمل فى نفسى وأكون على طبقات جلدى نوعا آخر من الجلود هو الأكثر صلابة كجلد الثعابين التى لا تشعر بشيء ولا تنتابها الأحاسيس بفضل ذلك الجلد التخين الواقى من الآلام.
فى حين أسير أنا على طريق الآلام كل أسبوع لأستعيد اللحظة ولكى تتقد وتستفيق ذاكرتى ولا تنسى أو تتناسى ما حدث.. فما حدث لا ينسى ولا يمكن غفرانه أو التغافل عنه.
إن كنا ننتمى للجنس البشرى وتسيل فى عروقنا ذات الدماء الزكية.. دماء المصريين منذ إخناتون وأحمس ومينا.. نبل المصرى القديم وشكواه الفصيحة هى تراثنا ومعيننا الوفير.. بدونه لا يسعنا العيش كراماً ولا نستطيع استنشاق الهواء الطيب واحتساء الأطعمة وترك عروقنا لتبللها مياه النيل لنعود دوماً له ولأنفسنا.. لجذورنا وفطرتنا الأولى.. فطرة المصرى القديم الذى لم يحرق الزرع ولم يقتل النفس ولم يتحكم فيما يتحكم فيه الإله.. تلك هى قوانين كيميت وماعت.. هكذا حدثنا كتاب الموتى.. كتابنا الأول وكتابنا الأخير وما بينهما كثير.
لقد قتل المصرى هناك.. ولقد كنت هناك..
كنت شاهدة وكان المصرى شهيداً
مددت يدى وقلت له هاذى يدى.. هات يدك..
لكن يده كانت مضرجة وساكنة لا تتحرك
لم يسعها أن تتحرك.. فقد قطع وريدها
قتل المصرى هناك فقتل المصريون جميعاً..
ومنذ ذلك التاريخ الأسود كلنا موتى ننتظر الحياة.. ننتظر أن تدب فينا الروح من جديد.. نهيم فى الطرقات باحثين عن الروح بين الأرواح التى زهقت فلا نجد روحاً نستكين إليها ونطمئن بين جنباتها.. إنها القسوة فى أبشع صورها أن تعيش باحثاً عن أرواح لا تطالها ولا يسعك الوصول إليها.. تسمعها وهى تناديك وتصرخ أنت لتجيب عليها لكنها لا تنصت إليك ولا تعيرك التفاتاً فلقد فرطت فيها يوماً فلمَ إذن تنادى عليها الآن!
حسرة سببتها خيبة الأمل والظن فى أن تجد الأرواح لتضمها لروحك وتستكينا معاً.
وأعيش الآن فى وحشة أليمة بلا روح.. ولى جسد أسير به فى الطرقات وأخطو بأرجلى فوق ذات المكان الذى سالت أمامه الدماء الزكية.. لتلك الدماء ولهذه الأرواح المجد فى الأعالى وعلى أرضنا.. أرض السلام.. دماء.