في الحلقة الثالثة، تحدثنا عن العدالة الاجتماعية، ودورها في بث روح
الانتماء بنفوس «الشماليين»، خلال الأسرتين الأولى والثانية في العصر الفرعوني، وكيف كان للغزو
الليبي للصحراء الغربية والدلتا أثرًا عميقًا في توحيد الصفوف خلف الجيش،
وظهور أول مقاومة شعبية عرفها التاريخ.
وتمثل
«الجبهة الليبية»، مشكلة نسبية، ستظل تؤرق ملوك الأسر في
الدولة الحديثة، فمنذ عصر تأسيس الدولة المصرية، وبالتحديد أيام الملك
العقرب، آخر ملوك مصر العُليا، الذي خرج بعشرات الحملات التأديبية، لسكان الصحراء
الغربية، حفاظًا على الأمن القومي المصري .
وتكررت هذه المشاهد بعد توحيد «مينا» للقطرين، وأيضًا ستُعاد في عهد الملك
«سنفرو»، مؤسس الأسرة الرابعة، و«ساحو رع» في الخامسة، و«ببي
الأول» في السادسة، وكلها حملات استباقية من الملوك المصريين، تشن بمجرد الإحساس
أن هناك تهديدًا للأمن القومي المصري.
ولم يتمكن «الليبيون» من التوغل داخل الحدود المصرية، بعد المشاهد التي
نرصدها الآن إلا في عصور الانتقال الأول والثاني والأسرة
الـ19، غير ذلك كان الجيش المصري الوطني لهم بالمرصاد .
وبالعودة إلى المشاهد السابقة، سنجد أن موقف «الشماليين» من الاحتلال الليبي،
أبهر الملك «بر إيب سن»، سادس حكام الأسرة الثانية، فرغم انكسار الجيش أمام
ضربات العدو، إلا أن روح المُقاومة الشعبية، التي أظهروها، أعادت
الأمل في مصر موحدة مستقلة.
وأظن أن ما فعله «أهل الشمال»، لم يكن إلا حصاد ما زرعه حُكام الأسرات
المبكرة، والمبادئ التي تعلمها «مينا»، من الملك «العقرب»، خلال
توحيده لأهل «الجنوب» ضد الحكام الطغاة، وطبقها كل الملوك على أرض الواقع.
فيقين حكام الأسرتين الأولى والثانية، بأن الشعب هو مصدر السلطات، وبه تقوم
الأمم وتنكسر، ساعد في مرور الفترات العصيبة على المصري القديم
بسهولة، فقاد «بر إيب سن» حرب مقاومة واستنزاف، بمساعدة شعبية ضد القبائل
الليبية الهمجية، وكبدهم خسائر فادحة.
وانتشرت فرق المقاومة والفدائيين، ووقف لأول مرة أهل الشمال بجوار أشقائهم في
الجنوب، يحاربون عدوًا واحدًا، حفاظًا على دولة لم تبخل
عليهم في شيء، وكانت ملحمة وطنية لا تقل عن ما فعله المصريون في «رشيد، ومقاومة
الاحتلال الإنجليزي والفرنسي والعدوان الثلاثي، وحرب أكتوبر المجيدة».
وتبرع الشعب لأول مرة لصالح المجهود الحربي، في مشهد قريب تمامًا لما فعله
أحفادهم في الفترة ما بين «نكسة 1967» و«نصر أكتوبر 1973»،
وافتدى الجميع بلاده بالمال والروح.
وخرجت المظاهرات الشعبية تُنادي بالكفاح والنضال، رافعة شعار «الجيش سينتصر
على الأعداء»، وكأنهم يقولون «الشعب والجيش يد واحدة»،
في تطابق يعجز العقل الإنساني عن تصوره مع نداءات أطلقت خلال سنوات حرب
الاستنزاف، ويطلقها المصريون الآن دعمًا للجيش في حربه على الإرهاب بسيناء، ورفعًا للروح
المعنوية للجنود، في مرحلة فوضوية، تعيشها دول الشرق الأوسط .
ومات الملك «بر إيب سن»، قبل أن يحرر البلاد من القبائل الليبية، ولم يؤثر
ذلك سلبًا على عزيمة المصريين، وجيشهم الذي أعادوا بنائه مرة
أخرى، واستكملوا الكفاح والنضال الذي لم يهدأ يومًا مع الملك «خع سخموي»، آخر ملوك
الأسرة الثانية، وتمكنوا من تحرير البلاد، وإعادة الاستقرار مرة أخرى، ومواصلة
التقدم، وتمهيد الطريق أمام أجيال قادمة، ستقيم حضارة مزدهرة، وتبني الأهرامات والمعابد، وتطور
أنظمة الإنتاج الزراعي، وتبرع في الطب والفلك والتحنيط.
وانخرط
«الشماليون» في الجيش، وتدرجوا داخله، وأصبحوا قادة عسكريين
كبار، حافظوا على حدود مصر القديمة من الأعداء، وبذلك تحول حلم إنشاء أول جيش وطني بظهير شعبي قوي إلى
حقيقة.
وغدًا.. نكمل