تحدثنا
في الحلقة الثانية، عن جهود الأسرتين الأولى والثانية في مصر القديمة، لتوحيد الشعب المصري،
وإزالة الفوارق بين سكان الشمال والجنوب، عبر المُصاهرة، وإقرار العدالة
الاجتماعية، وساعد ذلك كثيرًا في تطمين الجميع، بأن الدولة لا تُفرق بين أبنائها.
أظن أن
ما حدث خلال عصر «الأسرات المُبكر»، كان ثورةً اجتماعيةً مكتملة الأركان، فالإرادة
السياسية متمثلة في الحُكام، والعسكرية التي تحمي الوطن من الأخطار، والشعب الذي
يريد الاستقرار، ويسعى إلى التقدم الزراعي
والصناعي والتجاري، وساهموا جميعًا في وضع الدولة المصرية القديمة على الطريق
الصحيح.
كما ساعد
هذا المناخ، الذي وضعه «مينا» المُنتصر، واستمر خلال عهد الأُسرتين الأولى
والثانية، في صقل شخصية المصري القديم، وتدعيم الانتماء للحدود المصرية الجديدة،
فقد وجد فيها كل شيء يتمناه.
وتمكن
الحُكام الأوائل، من إقرار نظام علاجي لا يختلف عن أفضل أنظمة التأمين الصحي في
هذا الزمان، وبرع المصريون في الطب، واقتحموا تخصصات لم تكن موجودة من قبل كطب
الأسنان، وتمكنوا من إجراء جراحات تبدو متقدمة كثيرًا عما كانت تفعله الشعوب
الأخرى، كما ابتكروا أدوية وأمصالًا لعلاج الكثير من الأمراض التي كانت مستعصية.
ولم يكن
النشاط الزراعي بمنأى عن صحوة التقدم، فحافظ المصري القديم على نهر النيل، منبع
الخير الوفير، وتمكن من تطوير أنظمة الري، للتكيف مع منسوب المياه المتذبذب،
واستطاع التنبؤ بالفيضانات، وإنقاذ المحاصيل الزراعية، التي كانت تُتلف؛ بسبب عدم
علمهم بها، وذلك بفضل علماء الشمال، الذين قدموا تراثًا علميًا للإنسانية،
واكتشفوا التقويم الشمسي في عهد الملك «جر»، الذي ساعد كثيرًا في زراعة الحبوب
المختلفة، وتنظيم العملية برمتها.
كما برع
سكان الشمال في العمارة، وتخطيط المدن، وبنوا تجمعات سكنية، وساعدوا أشقاءهم
الجنوبيين في استخراج المعادن من المناجم المنتشرة في الوادي والصحراء، وشاركوا في
تسهيل التجارة بين مصر ودول الشام القديمة والنوبة.
وأسهم
سكان الشمال، في تعزيز القوة العسكرية للجيش المصري، وتطوير الأسلحة؛ لتدعيم قيم
الاستقرار والعدالة والتنمية التي وجدوها في «عصر الأسرات المبكر»، وهو ما ساعد في
حماية البلاد من خطر القبائل الليبية، التي دأبت على تنغيص استقرار المصريين في
عهد «جر»، وبدو الشرق أثناء حكم الملك «دان»، وتمكن الجيش المصري القديم من تشييد
الحصون والقلاع الدفاعية.
ودفعت
إسهامات الشماليين، في بناء الوطن الموحد الملك «دن» إلى وظيفة جديدة تُسمى بـ«حامل
أختام الشمال»، يتولاها أبناء الشمال أنفسهم، لكي يشعروا بمشاركتهم في إدارة
البلاد، ما دفعهم للتخلي عن آلهتهم وعبادة الإله «رع».
واستقر
التلاحم بين شعبي الشمال والجنوب، وباتت مصر دولة موحدة، فترة عصر الأسرتين الأولى
والثانية، حتى إن الفروقات الاجتماعية، لم يكن من السهل مُلاحظتها، وتحتاج إلى
متسعٍ من الوقت للتفريق بين بيوت الأعيان والملوك والأمراء وقادة الجيش وبين عوام
الشعب، فكانت بداية لعصر تعظيم الكاتب المصري والفلاح الفصيح.
بالفعل
كانت الدولة المركزية قوية لأبعد درجة، وهي الحالة التي لم تشهدها مصر إلا في عهد
«الأسرة الثالثة»، وحكم «كاموس» و«أحمس»، و«تحوتمس الثالث»، و«رمسيس الثاني»،
وأوائل حكم «محمد علي»، وبداية «الحقبة الناصرية»، رغم أن عصور الازدهار والعظمة
المصرية كانت حاضرة مع حكام آخرين.
ورغم كل
ذلك لم ينخرط الشماليون في الجيش، إما لعدم وجود دافع حقيقي، أو لتخوف الحكام
منهم، إلا أنه في عام 2700 قبل الميلاد، أثناء حكم الملك «بر إيب سن»، تمكن
الليبيون من احتلال غرب مصر، والسيطرة على الدلتا، بعد معارك ضارية، انتهت بانكسار
الجيش المصري المعتمد على الجنوبيين.
كان لذلك
الاحتلال، الذي لم يستمر أكثر من 4 سنوات على أقصى تقدير، أثرًا كبيرًا في نفوس
الشماليين، فهذه القبائل الهمجية، باتت تهدد مستقبلهم وحقوقهم وتراب وطنهم، الذي
أعطاهم فلم يخذلوه.
ووقف
الشماليون إلى جانب الجيش الوطني، لأول مرة منذ تأسيس الدولة المصرية القديمة،
وشكلوا فرقًا للمقاومة لا تختلف كثيرًا عن ما حدث فيما بعد ضد «الهكسوس» و«الفرس»،
وبطولات أهالي القاهرة والصعيد ضد الاحتلال الفرنسي، وشعب رشيد ضد حملة فريزر،
وأبناء القناة البواسل ضد العدوان الثلاثي، وأهالينا بسيناء في حرب الاستنزاف
وأكتوبر المجيدة.
وبذلك
سطر المصريون أول صفحات المقاومة الشعبية في كتب التاريخ، وبدأ حلمي وحلم أجدادي
يبدو قريبًا.
نكمل
غدًا