في الحلقة السابقة، تحدثنا عن حفاظ الجيش المصري
على مرّ العصور على عقيدته القتالية المتمثلة في حماية «الجبهة الشرقية، والحدود
الغربية مع ليبيا، ومتمردي الجنوب في النوبة»، وكيف كانت الأبعاد الاستراتيجية
للأمن القومي واضحة منذ أكثر من 5 آلاف عام.
في هذه الحلقة، سنتحدث عن حلم راودني، وأعتقد أنه
راود كل ملوك مصر منذ بداية عصر الأُسرات، وهو إنشاء «أول جيش وطني» للمصريين.
كانت مصر تعيش حياة غير مستقرة.. الاضطرابات والحروب
الداخلية بين الشمال والجنوب أنهكت الشعب خلال عصور حضارات «البداري»، و«نقادة»
الأولى والثانية.
تسببت حالة «الفوضى والارتباك»، في تعطيل مسارات
النمو والحضارة على أرض تمتلك كل مقومات الريادة، رغم التقدم النسبي الذي شهدته
مصر في عصر ما قبل الأسرات قبل 6 آلاف عام، خصوصًا في الزراعة وصناعة الأواني.
وتمكن «مينا» ملك الجنوب، من توحيد القطرين، وإقامة
الدولة المصرية القديمة قبل 3 آلاف عام من الميلاد، بعد تغلبه على «ملك الشمال»، ورغم
البطولة التي أظهرها الجيش خلال الحرب، وأثناء
الحملات التأديبية التي شنها على «بدو الشرق» و«القبائل الليبية» في الغرب، إلا
أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتباره جيشًا وطنيًا، بل قبلي من الدرجة الأولى،
فلم يكن يدين قادة جيشه بالولاء إلا لـ«شعب الجنوب» و«مينا» فقط، ولم تكن الدولة
الوطنية راسخة في عقيدتهم الحربية.
مؤكد أن «مينا» وجيشه كانوا يريدون فقط توسيع مجال
نفوذهم مستغلين ضعف الشمال، لكن السياسات الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية التي
رسخها حكمه، تشير لوجود رغبة حقيقية لتأسيس لبِنة حقيقية للدولة المصرية الموحدة،
مستفيدًا من أفكار الملك «العقرب»، آخر ملوك مصر العليا قبل الوحدة، صاحب أول ثورة
اجتماعية عرفتها البشرية.
وتعاقب على حكم مصر 16 ملكًا، خلال عصر الأُسرات المُبكر،
جمع بينهم حلم واحد، وهو تأسيس «أول جيش وطني» للمصريين، يجمع بين سكان «الشمال
والجنوب»، ويكون الدرع الواقي والسند الحقيقي لهم، وسط مخاطر تُحيط بهم، وأطماع الجيران
في الشرق والغرب.
حلم «أول جيش وطني» للمصريين، اصطدم بتخوف سكان
مملكة الشمال، الذين وقعوا تحت وطأة حكم الجنوب، فالوحدة لم تكن بالقوة المطلوبة
التي تسمح باتخاذ مثل تلك الخطوة، فلن يكون هناك جيش موحد دون شعب واحد يكون ظهيرًا
له.
وأيقن «مينا»، وحكام الأسرة الأولى، أن تطمين سكان
الشمال على أموالهم وأرواحهم، هو الأمل الوحيد لتحقيق الحلم المنشود، وسط أخطار تُحيط
بالمملكة الموحدة من بدو الجبهة الشرقية «فلسطين وسوريا»، ومناوشات القبائل الليبية
في الغرب، وتمرد بعض حكام النوبة في الجنوب.
واتخذ «مينا» خطوتين هامتين، ساعدت في تقوية
العلاقات بين طرفي مملكته الأولى بإنشاء مدينة منف لتكون عاصمة لمصر الموحدة،
والزواج من أميرة الشمال ليقضي بذلك على أي محاولات لإثارة الفوضى في البلاد فكان
يعلم جيدًا أن «الجيوش لا تخاف إلا الشعوب»، وقوته العسكرية، مهما كانت لن تصمد
أمام إرادة شعب الشمال.
وتمكن «مينا» وحكام الأسرة الأولى الثماني، من غلق
باب الفوضى، وتحقيق الاستقرار المنشود، وإقامة أول حكومة مركزية قوية، وعقد
الاتفاقيات التجارية مع الأعداء في الشرق «سوريا وفلسطين»، وتأمين حدود الدولة
الغربية من القبائل الليبية.
وأدت تلك «السياسات الحكيمة» إلى اكتشاف التقويم
الشمسي المعروف حتى يومنا هذا، الذي ساعد كثيرًا المصريين في الزراعة، وإنتاج حبوب
جديدة عادت بالخير والرخاء على سكان الشمال والجنوب، فضلًا عن إجراء أول تعداد سكاني
عرفه التاريخ.
ورغم الإنجازات التي حققها حُكام الأسرة الأولى:
«مينا»، و«عحا»، و«جر»، و«جت»، و«دن»، و«مريت نيت» و«عنج إيب»، و«سمرخت»، و«قع»،
والتي استمرت فترة حكمهم لأكثر من قرنين إلا أن الحلم الذي أظنه كان يهاجمهم في
منامهم، لم يتحقق.
وانتهى عصرهم، ولم يُدفن معهم حلمي وحلمهم، بتأسيس
أول جيش وطني، ولاؤه الوحيد للشعب المصري لا الحكام.
الأسرة
الثانية
أولى
حكام الأسرة الثانية، اهتمامًا كبيرًا بالأجور، وساهموا في وضع نظام عادل، يُعظم
من قيمة المُعلم والعلم، والحفاظ على تكافؤ الفرص بين أبناء الشعب الواحد، فلم يكن
مقبولًا، تمييز فئة عن باقي الفئات، حتى إن بعض الملوك كانوا يختارون أبناء عوام
الناس، لتولي مناصب قيادية في «الدولة» و«الجيش».
وتمكن
«المصري القديم» في الشمال والجنوب من الاندماج الكامل؛ بفضل الاستقرار، واستكمل
خطوات بناء المدن بمنظورها الحديث، وأنشأت التجمعات حول نهر النيل العظيم، واستطاع
بفضل مشروعات علمية دعمها ملوك الأسرة الثانية، التنبؤ بالفيضانات، وإحكام السيطرة
على مواسم الزراعة، وإحداث طفرة غير طبيعية في مجال الصناعة والتعدين، ووضع «أول
نظام كتابة»، وطوروا المعدات العسكرية، وسفن الصيد.
وظل
«حلمي» بإنشاء جيش وطني، يتأرجح،
ويقترب تارة ويبتعد تارة أُخرى، فرغم مقومات المدينة الفاضلة التي رسخها حُكام
الأسرة الثانية، إلا أن «سكان الشمال» لم ينخرطوا في الجيش، وفضلوا الاهتمام
بالاكتشافات وعلوم الطب والهندسة.
وفي
عام «2700 قبل الميلاد» وأثناء حكم الملك «بر إِيب سن»، وقعت الصدمة الكبرى، التي
أظنها ستكون دافعًا قويًا لتحقيق «حلمي المنشود»..
وغدًا
نكمل.
--------
مراجع
- نيقولا
جريمال: تاريخ مصر القديمة، ترجمة ماهر جويجاتي، القاهرة، 1991.