يتلازم هذا العام حدثان مُهمان خلال أسبوعٍ واحد، حيث احتفلنا خلال الأسبوعِ المُنقضى بذكرى الهجرةِ النبويةِ المُشَرفة وذكرى انتصاراتِ أكتوبر المَجيدة.
ولعل هذا التلازمُ بين الحدثيْن الدينى والعسكري يُذَكِرَنَا بتلازمٍ مُمَاثِلٍ بين حربِ أكتوبر ١٩٧٣ وشهرِ رمضان المُبارك وذكرى الاحتفالِ بغزوةِ بدرٍ الكُبرى.
وأعتقدُ أن هذا التلازم مَثَارُ تفاؤلٍ وتَيَمُنٍ وخَيْرٍ وبَرَكَة على الشعبِ المِصرى برغم عديدٍ من الصعوباتِ الاقتصادية التي يُعانيها، وهو ما يجعلنا نأخذُ العِبْرَةَ والعِظَةَ من ذكرى النصر في حالتيْ الهجرةِ النَبوية وحربِ أكتوبر في آنٍ واحد.
ففى حالةِ الهجرةِ النبويةِ منذ ١٤٣٨ عامًا من الآن، كان الرسولُ صلواتُ اللهِ وسَلامُهُ عليه وأصحابُه مُطَارَدين من كُفَارِ قريش ومُحَاصرين في بعضِ الأحيان في شِعْبِ أبى طالب، لا يجدونَ ماءً ولا غِذَاءً، ورغمَ الجوعِ والعطشِ والحصارِ الاقتصادى والدينى المفروضِ عليهم، إلا أنهم لم يَيْأسُوا من رَوْح الله، لم يَشُكُوا لحظةً في نصرِ الله، وكانوا يعلمونَ أن نصرَ اللهِ قريب. وكانوا على حق، لأن اللهَ أمرَ الرسولَ وأتباعَه بالهجرةِ من مَكَةَ إلى المدينة.
وبأسلوبِ القائدِ المُحَنَك، أمرَ الرسولُ أتباعَهُ بالهجرةِ على أفواجٍ دونَ أن يشعرَ بهم أحد، ليهاجرَ هو في النهاية مع صاحبِهِ أبى بكرٍ الصِديق رضى الله عنه. ورغمَ المُطَاردةِ والجائزةِ التي كانت مرصودةً من قُريش لمن يأتى بالرسولِ وصاحبهِ أحياءً أو أمواتا، إلا أن الرسولَ لم يَشُكْ لحظةً في نصرِ اللهِ وهو في الغارِ مع صاحبِه، وعندما ارتجف أبوبكر خَشْيَةَ أن ينظرَ كُفَارُ قُريش أسفلَ أقدامِهم ليروْهم من بينِ خُيُوطِ العنكبوتِ، ثبته النبيُ بمقولتهِ التي ستظلُ أيقونةَ الثِقَةِ باللهِ على مَرِ الزمان: «لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا».
وكما يقولُ الحبيبُ الجفرى إن الرسولَ قالَ هذه العبارةَ الجميلةَ الشجاعةَ وهو في الغَارِ مع صَاحِبِهِ وقد أحاطَ بهما الكُفّارُ، قالَها قويةً في حزمٍ، صادقةً في عزمٍ، صارمةً في جزمٍ: لا تحزن إن الله معنا. فما دام الله معنا فلِمَ الحزن؟ ولِمَ الخوف؟ ولِمَ القلق؟ اسكنْ، اثبتْ، اهدأْ، اطمئنَّ؛ لأنّ الله معنا. لا نُغلب، لا نُهزم، لا نضلّ، لا نضيع، لا نيأس، لا نقنط؛ لأن الله معنا. النصر حليفنا، الفرج رفيقنا، الفتح صاحبنا، الفوز غايتنا، الفلاح نهايتنا؛ لأن الله معنا. لو وقفتِ الدنيا كلّ الدنيا في وجوهنا، لو حاربنا البشر كلّ البشر، ونازلنا كلُّ مَن على وجه الأرض، فلا تحزن؛ لأنّ الله معنا. مَن أقوى منّا قلبًا؟ مَن أهدى منّا نهجًا؟ مَن أجلّ منّا مبدأً؟ مَن أحسن منّا مسيرةً؟ مَن أرفع منا قدرًا؟ لأنّ الله معنا.
ما أضعفَ عدوَّنا! ما أذلَّ خصمَنا! ما أحقرَ مَن حاربنا! ما أجبن مَن قاتلنا! لأنّ الله معنا. لن نقصد بشرًا، لن نلتجئ إلى عبدٍ، لن ندعوَ إنسانًا، لن نخاف مخلوقًا؛ لأنّ الله معنا. نحن أقوى عُدَةً، وأمضى سلاحًا، وأقومَ نهجًا؛ لأنّ الله معنا. نحن الأكثرون الأكرمون الأعلوْن الأعزّون المنصورون؛ لأنّ الله معنا.
وإذا انتقلنا من العِبْرَةِ المُستفادة من ذكرى الهجرة وانتقلنا إلى الدرسِ المُستفاد من الذكرى الثالثةِ والأربعين لحربِ أكتوبر المجيدة في العامِ الهجرى ١٣٩٢، نجد أنه الدرسُ نفسُه والعِبْرَةُ نفسُهَا رغمَ مرورِ السنينِ والعقودِ والقرونِ بين الهِجرةِ من مكةَ إلى المدينة والهجرةِ من الهزيمةِ إلى النصر، وشَدِ الرِحَالِ للبواسلِ من الرجال من القواتِ المسلحةِ النَبْتِ الطيبِ لهذا الشعبِ من الضِفَةِ الغربيةِ إلى الضِفْةِ الشرقيةِ من قناةِ السويس، التي حفرَها هذا الشعبُ بدمائهِ الذكية.
إن نصرَ أكتوبر سبقهُ سبعُ سنواتٍ من الهزيمةِ والنكسةِ والانكسارِ والعجزِ أمامَ قوةٍ عسكريةٍ معادية، وخطِ بارليف الذي لا يُقهر، ومانعٍ مائى لا يمكنُ عبورُه أمام حائطِ نيرانٍ يدمرُ كلَ مَن يحاولُ ذلك. ورغمَ ذلك كله، فإنه من خلالِ إعدادِ العُدَةِ للحربِ ولتحريرِ الأرض وبالتدريبِ والإعدادِ والتخطيطِ السليم، وقبلَ ذلكَ كله الثقةُ في نصرِ الله، تلكَ الثقةُ التي جعلت شِعَارَ الحرب «اللهُ أكبر» وجعلَ خوضُهَا في رمضان حربًا مقدسةً لا تقلُ بحالٍ من الأحوال عن غزوةِ بدرٍ ضِدَ الكُفار أو موقعةِ خَيْبَر ضِدَ يهودِ يَثْرِب.
لم نحزنْ لنكسَةِ ١٩٦٧ رغم مرارِتها في حُلوقِنَا، بل تَمَسَكْنَا بقيادتِنَا وزعامتِنَا ولم نُحَمِلْهَا وحدَها تلكَ الهزيمة، بقى الشعبُ وقيادتُه وقواتُه المُسلحة في خندقٍ واحد يسألونَ سؤالًا واحدًا: «متى نَصْرُ الله؟»، ليجيبَهُمُ اللهُ من فوقِ سَبْعِ سماوات: «ألا إن نصرَ اللهِ قريب»، لم نَحْزَنْ لأن اللهَ معنا، فَنَصَرَنَا بعْونٍ منه وفضل.
وإذا كنا في هذه الآونة نواجهُ ظروفًا اقتصاديةً صعبةً نشعرُ بها جميعًا، ونتحملُهَا رغمَ شِدْتِهَا، إلا أن هذه الظروف لن تكونَ أقسى من مطاردةِ الرسولِ الكريم ولجوئِهِ إلى غَارِ ثَوْر للاختباءِ فيه من المشركين الذين يطلبونَ رأسَه، ولن تكونَ أقسى من مرارةِ هزيمةِ ١٩٦٧ التي تحملنَاهَا سَبْعَ سنواتٍ حتى أتَانَا نصرُ اللهِ في حربِ أكتوبر المجيدة.
إن العِبْرَةَ والعِظَةَ والدرسَ المُستفاد من الهجرةِ النبويةِ وحربِ أكتوبر المجيدة هي أنه يجب أن يُوقِنَ الشعبُ المِصرى دونَ أدنى شكٍ في نصرِ الله القريب، الذي سيجعلُنَا نتجاوزُ هذا النفق إلى آفاقٍ واسعةٍ رَحِيبة.
أيُها الشعبُ المصرى العظيم: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا.