كلما سمعت عن وقوع حادث طريق سقط فيه ضحايا، قتلى ومصابون، وكلما قرأت إحصائية عن حوادث الطرق فى مصر، وكيف أن عدد القتلى على الأسفلت سنويا أضعاف أضعاف أضعاف أعداد القتلى من ضحايا حوادث الطيران! كلما حدث أى مما سبق، تذكرت تصريحا قديما قاله مسئول مصرى عن الطرق، تصريح معبر جدا عن الوضع الذى نعيشه، إذ قال المسئول إنه يتعمد عدم إصلاح الطرق المهدمة المتهالكة بهدف الحد من سرعة السيارات عليها، وبالتالى تقل حوادث الطرق!.
التصريح قاله المسئول منذ فترة، لكن أصداءه لا تزال تتردد فى ذاكرتى، إذ يعبر التصريح عن فلسفة الدولة فى التعامل مع معضلة حوادث الطرق، التى تخلو من أى خطط أو استراتيجيات للتخلص من حالة نزيف الدم المستمر للمصريين على الأسفلت الأسود.
فلم يعد مقبولاً على الإطلاق ما يقع من حوادث مروعة على طرق مصر، من شرقها لغربها، ومن شمالها لجنوبها، والتى تحصد فيها عشرات بل مئات من أرواح الأبرياء الذين لا ذنب لهم ولا جريرة، سوى أن القدر ساقهم للسير على الطريق، فى دولة تعتبر حوادث الطرق قضاء وقدرا لا دخل لها بها. متجاهلة أن أهم أسباب هذه الحوادث الشنيعة هى القيادة بسرعة عالية، وعدم الالتزام بالقواعد المرورية، أو استخدام الهاتف المحمول أثناء القيادة.
ففى مصر قانون المرور واجب النفاذ، ولكنه لا يطبق مثل كثير من القوانين، إهمال الدولة فى الالتزام بتطبيق القانون يكون ثمنه فادحاً للغاية، تدفعه أسر مصرية بسيطة يروح عائلها بين ضحايا نزيف الأسفلت.
فأغلب حوادث الطرق فى مصر نتيجة أخطاء السائقين، ليكون قائد السيارة هو المسئول الأول عن وقوع غالبية الحوادث. لأنهم يتجاهلون الالتزام بتعليمات الوقاية من الحوادث، وقد تطور الأمر إلى أن وصلنا إلى أن حوادث الطرق أصبح يروح ضحيتها الآلاف كل عام، بعد أن أصبحت الحوادث الفردية للسيارات واجبا يوميا يؤديه التهور فى القيادة، الذى يكون نتيجته انقلاب السيارة والانزلاق عن الطريق الرئيسى والاصطدام بالأشياء الثابتة مثل الأشجار والجدران وغيرهما.
فقد كثرت حوادث الدهس التى يروح ضحيتها الكثير من الأبرياء، الصغار والكبار، حيث يعد الأطفال (الأقل من عشر سنوات) وكبار السن وذوو الاحتياجات الخاصة الأكثر عرضة للحوادث المرورية، لعدم توافر الخبرة الكافية فى التعامل مع الشارع وحاجتهم لمن يساعدهم على عبور الشارع، لأن الدولة لا تراعى هؤلاء فى تخطيط الشوارع بعمل أماكن ممهدة ومخصصة لعبورهم.
فمنذ أيام قليلة فى المنوفية، أطاح شاب يقود سيارة مسرعة على طريق الإسكندرية القاهرة الزراعى بثلاث فتيات يدرسن فى كلية الطب، كن قد خرجن للاحتفال بالعيد فى إحدى الكافتيريات، إذ فوجئ الجميع بالسيارة المتهورة تطيح بهن لمسافة ٥٠ مترًا، وأردتهن قتلى فى الحال، فتحول العيد فى شبين الكوم إلى حالة حزن شديدة بعد فقدهن.
نفس الأمر حدث ويحدث يوميًا على طريق الجيش، أو طريق الكريمات الصعيد، الذى هو أحدث الطرق التى نفذتها القوات المسلحة لربط محافظات الصعيد بطريق سهل ويسير، إلا أن تهور السائقين يؤدى إلى وفاة العشرات كل يوم من الشباب والأطفال وكبار السن، نتيجة السرعة الزائدة، رغم أنها محددة بـ١٢٠ كيلو فى الساعة، إلا أن البعض يسير بسرعة جنونية تزيد فى بعض الحالات عن ١٤٠ كيلو فى الساعة، منها على سبيل المثال، شاب يبلغ من العمر ٢١ عامًا كان يقود سيارة حديثة، وصلت بسرعتها إلى ١٨٠ كيلو مترًا فى الساعة، وعندما انفجر إطار السيارة الأمامى، لم يستطع السيطرة على السيارة فانقلبت به عدة مرات ومات فى الحال.
كل هذه الحوادث التى ذكرتها تبرهن أنه لا توجد رقابة قانونية صارمة من الدولة على الطرق، ما يجعل المتهورين يتصرفون كما يحلو لهم، فتكون النتيجة ضحايا بالآلاف سنويا، والدليل على الغياب شبه الكامل للرقابة على الطرق، هو تفشى ظاهرة الموتوسيكلات التى بلا أرقام مرورية، والتى تملأ شوارع القاهرة والمحافظات بلا ضابط ولا رابط.
فمع انتشار الموتوسيكل بأسعار رخيصة (خاصة الصينى منها) والقليل الجودة بالتبعية، أصبح الإقبال على هذه النوعية من الدرجات البخارية كبيرا من قبل الشباب والمراهقين، وتنتشر الظاهرة أكثر فى القرى، حيث يحرص الأهالى على شراء موتوسيكل صينى لأولادهم، على سبيل التدليل أسوة بزملائهم، غافلين أنهم بشرائها كأنهم استخرجوا لابنهم شهادة وفاته بأيديهم. ففى شهر أغسطس وحده، سجلت دفاتر مستشفيات محافظتى دمياط والدقهلية وحدهما ١٩٥ حالة حادث موتوسيكلات.
وفى قريتى السوالم ورأس الخليج، راح شابان ضحية حادث الموتوسيكل على الطريق الزراعى، أحدهما يدعى محمد صبحى وابن خاله البالغ من العمر ستة عشر عاما، وبالبحث تبين أن الشاب محمد صبحى كان قد اشترى الموتوسيكل من أيام قليلة، وبنفس الطريقة أصيب مصطفى محمود طالب بكسر فى العمود الفقرى نتيجة حادث موتوسيكل، نفس القصة وعلى نفس الطريق (مصر إسكندرية) الزراعى، بترت ساق أحمد عبدالحميد بعد أن صدم الموتوسيكل الذى يقوده أحد الحواجز الخرسانية، فأطيح به لمسافة تزيد على ثلاثين مترًا، مما أدى إلى فقدان ساقه، وأكد فى التحقيقات بأنه كان قد اشترى الموتوسيكل من فترة قصيرة لكى ينتقل به من قريته إلى المدينة والقرى المجاورة لقضاء احتياجاته ومقابلة أصدقائه وأقاربه، لكنه فى الحقيقة اشترى ضياع مستقبله دون أن يدرى، بعد أن كاد على وشك الموت.
حوادث الطرق ليست قضاء وقدرا كما يفكر المسئولون، فعلى الدولة، إن كانت جادة فعلاً فى وقف نزيف الدماء على الطرق المصرية، وتسعى إلى حماية أبنائنا من هذه الكوارث المرورية المروعة، ألا تقف مكتوفة الأيدى أمام هذه الجرائم التى تقع بشكل يومى، دون أن تتخذ السلطات المسئولة إجراءات رادعة للمخالفين لقوانين المرور، وإصلاح وتعديل القوانين الأخرى التى عفا عليها الزمن، فلا بد من تغليظ العقوبات كما يحدث فى الدول المتقدمة، لأن مصر ليست أقل من دول العالم التى تحافظ على أرواح أبنائها من خلال قوانين صارمة.