لم أكُن مِثْلَهُن، الأنثى الضعيفة، المطيعة، أو الجسد العاطل، الخامل، إلا من الخِدْمَة وإنجاب الأطفال، أو التمثال الجميل الذى لا يعرف سوى التزين والتعطر من أجل رجل، يبحث باستمرار عن امرأة تفصيل، على مقاس عقله وجسده وأفكاره، رجل يغار منها إذا نجحت، ويعجزها إذا تقدمت، ويحتاط منها إذا فكرت.
أُسعى دومًا إلى تحقيق ما أراده الله لى، امرأة حرة، طليقة، تملك عقلها، وجسدها، ومصيرها، تحلم، وتفكر، وتحب، وتعشق، وتغنى، وترقص، وتعتز بخلقها المتفرد، وتكوينها المدهش، وتفخر بأنها حفيدة «حواء» أول من مدت يدها إلى شجرة المعرفة، و«إيزيس» سيدة الحكمة والعقل والإرادة، و«حتشبسوت» زعيمة النبيلات، و«نفرتيتى» التى هجرت زوجها غضبًا منه، لمحاولته إرضاء كهنة آمون، و«كيلوباترا» التى آثرت الموت على الأسر، و«عزيزة» - جدتى - التى خلعت باب بيتها الريفى العتيد، وخرجت، حين أغلقه جدى عليها؛ ليمنعها من الخروج.
كنت أكره عجزى وقلة حيلتى، حينما يتناثر حولى شَظايا ضجيج، يعلن اعتناق فتاة جديدة الحياة فى الظل، كما يريدها الرجل، حتى لا يلمسها شعاع الشمس، كنت أرتعد من فكرة طعن إنسانيتها بسيف نظرياته المتهالكة، التى ورثها عن آبائه وأجداده، فى حضورها الغائب، ولا يبحث عن لحظة صدق واحدة، لا تطبق فيها عادات وتقاليد، أو أحكام وقوانين، ولا ينفصل فيها الحب عن الجنس، أو الظاهر عن الباطن.
هكذا الرجل فى دروب الشرق، ولو حلق ذقنه، ورش عطره، وارتدى حذاءه من «بالى»، لا يحترم عقل المرأة، ورافض لأنوثتها، وعبد لميراث الجهل، ومعتقدات التخلف، يعبر فى فلسفته الاجتماعية عن مجتمع غير عادل، مكان المرأة فيه عبثى، ومخيف، باعتبارها رمزًا للمتعة والجسد والخطيئة.
وهكذا هى أيضًا، ارتضت أن تكون مجرد «دُمْيَة»، فأطفأت عقلها، وجمدت قلبها، واندفعت نحو أساطير القهر والخضوع، فتَبَنَّت رؤى استلابها، واختزال أبعادها فى محض جسد، يجب إحكام الرقابة عليه، فهى لا توجد ولا تعيش لذاتها، بل هى ما وجدت إلا من أجله، حتى تعودت، واستعذبت سلطة الأب، وهيمنة الزوج، وسطوة المجتمع.
ويبدو أن الحال لا يختلف كثيرًا فى دروب الغرب، وهو ما عبَّر عنه رائد المسرح الحديث «هنريك إبسن» فى رائعته «بيت الدُّمية»، التى قدمها المسرح القومى منذ سنوات فى عرض رفيع المستوى، مشاركة منه فى الاحتفالية العالمية المقامة لمئوية «إبسن»، وهى النسخة «النرويجية» للموضوع الكبير، الذى تناوله أدب الشطر الأخير من القرن التاسع عشر فى جميع أنحاء أوروبا، وهو آلام المرأة فى عالم يهيمن عليه الرجل، وعمق جوانب الصراع بين عالم المرأة، بعلاقاته الشخصية، وقيمه الإنسانية، ضد عالم الرجل، بحقوقه، وواجباته.
كان «إبسن» من تلك النخبة النادرة التى امتلكت وهج الإبداع، وعمق المعرفة، وحرارة التساؤل، وحيوية الجدل، واتسم مسرحه بمحاوراته الموضوعية للعقل والقلب معًا.
كتب الرواية فى «كوبنهاجن» - عاصمة الدنمارك - عام ١٨٧٩، وهو نفس العام الذى اخترع فيه «توماس إديسون» المصباح الكهربائى، وكأن شعاع الشمس يشرق من جديد، ليدفع المجتمع نحو التحرر والانطلاق، والعقل نحو التفتح والازدهار، إلا أن الرواية هوجمت بعاصفة رعدية شرسة من المحافظين الرجال، لأنها فضحت بصورة غير مسبوقة واقع العلاقة المؤسفة بين الرجل والمرأة.
جعل الزوجة اللطيفة والقليلة الخبرة «نورا» تهجر بيت الزوجية، وتتخلى عن أطفالها الثلاثة، احتجاجًا على وضعيتها المهينة، وهى التبعية المطلقة لزوجها المثقف، الذى لا يكن لها احترامًا حقيقيًا، ولا يؤمن بحقها الكامل فى التفكير، أو اتخاذ أى قرار، بل يعاملها كتمثال جميل، أو جسد بلا روح، لتجد نفسها فى النهاية عاشت بما سمته «فرجينيا وولف» : غوص إرادتها البطىء فى إرادته، كقطعة من الخشب تشبعت بالماء).
صَفَقَت «نورا» الباب خلفها بعنف على المسرح، هذه الصَّفْقَة التى هزت أعمدة المجتمع القديم فى جميع أنحاء أوروبا والعالم بأسره، لتدير ظهرها إلى ثمانية أعوام بلا حب، وبلا قيمة، وبلا معنى، بحثًا عن حياة أكثر جمالاً، وامتلاءً، واتزانًا، بوصفها كيانا إنسانيا مكتملا، مساويا تمامًا للرجل.
ولم تردع «إبسن» الثورة العارمة على «بيت الدمية» عن مواصلة الدق بمطرقته فى حملته الساخطة على آفاق العقول الضيقة، حتى توفى بعد صراع طويل مع المرض، واضعًا اسمه فى مصاف أشهر المسرحيين فى العالم، وكانت اليد الممسكة بالمطرقة! هى الرمز الذى نقش على جدار مقبرته! وما أجدره به!.