يومًا بعد يوم تتحول تركيا إلى بلد حزب واحد، فمحاولة الانقلاب الفاشل فى ١٥ يوليو أعطت الرئيس رجب طيب أردوغان العذر لتصفية خصومه جميعًا.
أرجح أن الرئيس كان يعرف بوجود محاولة انقلاب وتركها تمضى لتبرر سياسته اللاحقة، هل يُعقل أن مئات الضباط الكبار يتآمرون ولا تعرف الدولة شيئًا عنهم؟ بل إنهم يتآمرون ويتركون الرئيس ورئيس وزرائه، كلًا فى مكان معروف، لقيادة الحملة ضد الانقلابيين، أى محاولة انقلاب تبدأ باعتقال أركان الحكم، إلا أن أردوغان تـُرِك يصطاف ومعه «موبايل» يستعمله فى الرد على الانقلابيين.
النتيجة أن ٤٠ ألفًا معتقلون، وقد طرد أكثر من مائة ألف من الجيش والشرطة والقضاء، وقبل ذلك اتهم أطباء وخبراء فى مستشفيات باستعمال مومسات للتجسس على ضباط الجيش، وحكمت محكمة استئناف ببراءة ٣٣٦ منهم.
قبل ذلك أيضًا كان عبدالله جول أسس حزب العدالة والتنمية، وليس أردوغان، وعرفته وزيرًا للخارجية راقيًا معتدلًا، وتبادلت معه الحديث فى دافوس، هو أصبح رئيس جمهورية وحاربه أنصار أردوغان خشية المنافسة حتى اعتزل.
بحكم عملى، أتابع وضع الصحافة التركية، وبما أن الحكومة هناك تحكم من طريق المراسيم فقد اعتقلت أكثر من مائة صحفى، وأغلقت ٤٥ جريدة و١٦ محطة تليفزيون و٢٣ إذاعة وثلاث وكالات أخبار و١٥ مجلة و٢٩ دار نشر. أزعم أن دول المنظومة الشيوعية الراحلة لم تفعل مثل هذا، جهد الحكومة التركية ضد الإعلام وصل إلى بريطانيا، فقد أغلقت النسخة المحلية من جريدة «زمان»، وقرأت أن جهات تابعة للحكومة التركية تطلب من الأتراك المقيمين فى بريطانيا أن يتجسس بعضهم على بعض.
أنصار حزب العدالة والتنمية يتهمون الولايات المتحدة حتى اليوم بأنها كانت تقف وراء محاولة الانقلاب التى قادها الداعية فتح الله جولن من منفاه الطوعى فى الولايات المتحدة، نائب رئيس الوزراء التركى نعمان كورتولموس قال أخيرًا إن الولايات المتحدة ليست وراء محاولة الانقلاب، والحكومة الأمريكية ردت بأنها تدرس طلب تسليم جولن، وهذا مع العلم أن العلاقات الأمريكية - التركية متوترة، وأن اتفاقًا تركيًا مع أوروبا عن اللاجئين فى مهب الريح.
جولن له أتباع فى تركيا ونشاط حول العالم كله على شكل جمعيات خيرية ومدارس، هو ينكر أى دور له فى المحاولة ويقول إن موقف الحكومة التركية التالى «يوم أسود فى تاريخ العالم». رئيس وزراء تركيا بن على يلدريم يقول إن المعتقلين اعترفوا بدور جولن، إلا أن هذا ربما جرى تحت التهديد أو بعد وعد «المعترفين» بإطلاق سراحهم.
الولايات المتحدة لن تسلم جولن فى وقت قريب، فطلب استرداده يحتاج إلى أشهر من الدراسة قبل اتخاذ قرار، وقد بقى لباراك أوباما فى البيت الأبيض أربعة أشهر أو نحوها قبل انتهاء ولايته، ولا أرى أنه يريد فى سجله السياسى أن يُعرَف عنه أنه سلـّم رجلًا ربما كان بريئًا.
الاضطهاد يهدد الآن صلاح الدين ديمرطاش، زعيم حزب الشعب الديموقراطى المؤيد للأكراد، الذى حقق نجاحًا كبيرًا فى الانتخابات العامة الأخيرة. الادعاء التركى يريد التحقيق معه فى مزاعم عن تأييده الإرهاب الكردى، وتحديدًا حزب العمال الكردستانى، أى جماعة عبدالله أوجلان. ديمرطاش يرفض المثول أمام المحققين، ويواظب على العمل فى مكتبه المعروف فى أنقرة. هناك مَنْ يعتقد أنه يريد أن يُعتَقَل ليكسب عطف الناس، على سبيل التذكير أردوغان نفسه اعتُقِل وبقى فى السجن أربعة أشهر سنة ١٩٩٩، ثم خرج وفاز حزب العدالة والتنمية بانتخابات ٢٠٠٢ ونهض بالاقتصاد التركى، قبل أن يسقط فى ممارسة الديموقراطية، أردوغان له أنصار كثيرون، وربما غالبية من الشعب التركى، إلا أنه (كما قال الشاعر) أعطى ملكًا فلم يحسن سياسته.
نقلا عن الحياة اللندنية