توقفت فى المقال السابق، عندما أراد بوش الابن أن يزيح صدام، بعمل عسكرى مبرر باقتران الإرهاب بأسلحة الدمار الشامل. وعلينا أن نتذكر جيدا ما أكد عليه آلان جرينسبان رئيس الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى فى عام ٢٠٠٦ بقوله «من غير اللائق سياسيًا الاعتراف بما يعرفه الجميع، حرب العراق هى بشأن البترول إلى حد كبير، لكن عند هذه النقطة لم تعد أقوال كهذه غير لائقة، الفكرة القائلة بأن غزو واحتلال أمريكا الأحمق وسيئ الإدارة للعراق الذى بدأ فى ٢٠٠٣ كانت وراءه خطة جيوستراتيجية كبرى أو حتى النية البسيطة للسيطرة على «صنبور» البترول فى الشرق الأوسط تبدو مستبعدة».
إذ كان ثمة حاجة تجارية أمريكية ملحة فى الحرب، فإنها تكمن فى مصالح أصحاب العقود العسكرية، وشركات الأمن، وموردى السلاح، الذين استثمروا أهمية البترول «الاستراتيجية»، تمدهم بمنطق وموضوع لتوسيع فرص صفقاتهم.
فى الحروب الأمريكية وبسبب الإمكانات الهائلة لهوليوود والإعلام المرئى بشكل عام، كانت الميديا هى «فريق الرد السريع»، فقد أسند قسم الحرب النفسية فى البنتاجون لشركة أمريكية اسمها SAIC قبل غزو العراق مهمة إعداد الرد الإعلامى السريع، ويتكون من خبراء أمريكيين فى الإعلام وفى الحرب النفسية وبالاستعانة بمذيعين عراقيين يدينون بولائهم للجيش الأمريكى، من أجل تمهيد الأرض أمام قوات الغزو قبل ٢٠٠٣ وفى أثنائه وبعده.
وكان هذا الفريق هو من شكّل شبكة الإعلام العراقية التى حلت محل وزارة الإعلام التابعة للحكم السابق قبل الاحتلال. ويلاحظ من اسم الفريق «الرد السريع» الصبغة العسكرية، فالحرب الإعلامية لا تقل أهمية عن الحرب العسكرية. ويصف الجنرال الأمريكى ديفيد بترايوس الحرب الأمريكية فى أفغانستان على أنها حرب السيطرة على الوعى.. تدار باستمرار بالاستعانة بوسائل الإعلام الإخبارية. ما يهم فى الواقع ليس المعارك اليومية، وإنما كيف بيعت المغامرة فى أمريكا، حيث تؤثر وسائل الإعلام مباشرة على رأى الجمهور المهم. هذا هو المهم فى نظر الإدارة الأمريكية، التأثير على الداخل الأمريكى حتى يستمر فى تأييد الحرب. إذ كل التشويه والتضليل الإعلامى موجه إلى وعى الشعب الأمريكى وليس الرأى العام الخارجى. وفضلت الولايات المتحدة أن تحكم العراق من خلال مجلس حكم غير منتخب، عين أعضاؤه لــ «تمثيل تنوع العراق» بمعنى العرب الشيعة والعرب السنة والأكراد والترك والآشوريين المسيحيين. بذلك تم إحلال سياسة هويتاتية مُختَرعَة أمريكيًا قائمة على الدين والعرق محل التنوع الواقعى للعراق بأشكال ميوله السياسية المتعددة.
لم تكن وحشية القوة العسكرية الأمريكية الهائلة أداة مناسبة لبناء الديمقراطية المزعومة، خاصة أن واشنطن جمعت بينها وبين شكل آخر من القسوة، مخطط نيوليبرالى لفرض نظام اقتصادى وسياسى غير منظم وقائم على السوق، بنى جزءًا كبيرًا منه متعاقدون أمريكيون من القطاع الخاص معهم القوة المحتلة على أعمال إعادة البناء، بل وعلى كثير من عمليات الاحتلال العسكرى.
وتسبب البرنامج النيوليبرالى القائم على تفكيك الدولة العراقية وحل قواتها المسلحة وإغلاق الصناعات التى تديرها الدولة وإزالة جميع القيود على السيطرة الأجنبية على الاستثمار وتصدير الأرباح، وخصخصة صناعتها البترولية، فى معاناة اقتصادية ورفع معدلات الفقر وانخفاض مستويات المعيشة لشرائح عريضة من الشعب العراقى، مما زاد من حدة المعارضة السياسية للاحتلال الأمريكى الهمجى.
لقد حققت الإمبراطورية الأمريكية أهدافها الاستراتيجية فى العراق وهو ما يمثل جوهرة التاج لتلك الاستراتيجية الضخمة من خلال خطتها باستبدال حكومة عميلة مؤيدة للإمبراطورية الأمريكية بنظام البعث فى العراق وبناء قواعد عسكرية دائمة هناك.
وبعد شهرين من بدء الحرب على العراق سلم مجلس الأمن بالأمم المتحدة السيطرة على عوائد البترول للولايات المتحدة، متخليًا عن فرصة إجبار أمريكا من البداية على اتباع مسار ديمقراطى فى السيطرة على البترول. وسلمت واشنطن جزءًا كبيرًا منه إلى متعاقدين أمريكيين استأجرتهم ليتولوا إعادة بناء البنية التحتية لصناعة البترول، على حساب المهندسين وعمال البترول العراقيين.
ورأى كثير من معارضى الغزو الأمريكى للعراق أنه قد يسبب انفجار الغضب الشعبى فى شوارع العالم العربى، الأمر الذى يهدد بسقوط الحكومات التى دعمتها أمريكا وعلى رأسها نظام المخلوع مبارك، ولكن رد الفعل الشعبى قد تأخر نحو ثمانى سنوات، لنشهد الاحتجاجات الجماهيرية غير المسبوقة فى يناير ٢٠١١ سقط نظام بن على فى تونس، وتم خلع مبارك فى ١١ فبراير وامتدت إلى سوريا وليبيا واليمن والبحرين، ولكن ثمة أسبابًا كثيرة لموجة الحراك الشعبى العربى.