ليس هناك أدنى شك فى أن ممارسة النقد الاجتماعى مسألة أساسية فى أى نظام ديمقراطى، وهذا النقد مهمته الأساسية تشخيص المشكلات التى يواجهها المجتمع برؤية نقدية، وليس ذلك فقط ولكن تقديم السياسات البديلة.
وقد قمت -باعتبارى عالما اجتماعيا، بهذا الدور المهم فى عصر الرئيس السابق «مبارك» لأننى أخرجت كتابا نشرته دار نهضة مصر بعنوان «مصر بين الأزمة والنهضة: نقد اجتماعى ورؤية مستقبلية» وذلك عام ٢٠٠٨،
وقد وجهت فيه النقد لعديد من الممارسات السياسية الخاطئة وأبرزها على الإطلاق احتكار «الحزب الوطنى» لعملية اتخاذ القرار وكذلك تردى الأحوال الاقتصادية نتيجة الزواج المحرم بين السلطة والثروة، بالإضافة إلى التمييز فى تطبيق القانون والذى ما كان يطبق إلا على الفقراء فى حين أن رجال الأعمال والأغنياء كانوا يخرقونه عيانا بيانا بل وينهبون الأراضى الشاسعة -والتى هى ملك للشعب المصرى والذين اشتروها للاستزراع بثمن بخس- ولكنهم خالفوا شروط الاتفاق وبنوا عليها المنتجعات والقصور والفيلات بحيث أصبحت قيمة الفدان الذى اشتروه بخمسمائة جنيه تقدر منذ حوالى ٤٠ سنة بأربعة ملايين جنيه!
وهذه الأراضى المنهوبة هى التى شكل الرئيس «السيسى» لجنة عليا برئاسة المهندس «محلب» رئيس الوزراء السابق لاستردادها ونجح نجاحا فائقاً فى استرداد مئات الألوف من الأفدنة وطرحها بالمزاد العلنى لاسترداد حق الدولة.
وبعد ثورة ٣٠ يونيو وتولى الرئيس «السيسى» رئاسة الجمهورية أصدر «المركز العربى للبحوث» الذى أديره كتابا بالغ الأهمية عنوانه «الدولة التنموية: رؤى نقدية للشفافية ورؤى بديلة» وقد شارك فى إنجاز بحوثه ثلاثة عشر خبيرا من خيرة الخبراء فى العلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية وأردنا من هذا الكتاب أن يكون دليل عمل للنخبة السياسية والناشطين السياسيين من الشباب، وكذلك النخبة الثقافية وكيف تكون ممارسة النقد الاجتماعى المسئول.
وهذا النقد الاجتماعى المسئول له شقان أساسيان: أولا التحليل النقدى لعدد من أبرز المشكلات التى تواجه المجتمع المصرى حاليا، وثانيا تقديم السياسات البديلة لكل مشكلة بمعنى أنه من تقاليد النقد الاجتماعى المسئول عدم الاكتفاء بتوجيه النقد -هكذا كما اتفق- ولكن باستخدام المؤشرات الكمية والكيفية لتوصيف المشكلات، كأن نبدأ نقد موضوع الأمية بذكر أن ٢٦٪ من سكان مصر أميون، وأن ٢٦ مليون مصرى تحت خط الفقر قبل الانتقال إلى المؤشرات الكيفية لتحليل المشكلات، ثم بعد ذلك لا بد من تقديم سياسات بديلة للسياسات المطبقة الآن والتى وجه لها النقد.
غير أنه لوحظ بعد ثورة ٢٥ يناير وخصوصا فى المرحلة الانتقالية أن النقد الاجتماعى غير المسئول أصبح عادة مرذولة شائعة وأصبح يقدم عليه من يعرف ومن لا يعرف.
وضاعف من خطورة الظاهرة انتشار الـ«فيس بوك» وغياب «حراس البوابات» فى وسائل الإعلام التقليدية مثل الصحف والمجلات، حيث كان رئيس التحرير يقوم بغربلة المواد التى تصل إليه من القراء وينشر ما هو صالح منها وما هو غير صالح.
وفى الـ«فيس بوك» أصبح كل من يجلس إلى الكمبيوتر رئيس تحرير نفسه! وحتى لو كان جاهلا أو نصف متعلم أو مثقفا ضعيف الثقافة فإن الكل أصبح يمارس ما أطلق عليه النقد الاجتماعى المنحرف.
وهو يتمثل فى نقد كل ممارسات الدولة وكل وزراء الدولة بزعم أن سياساتهم فاشلة والمضحك أن أشباه الكتاب ممن يدمنون الكتابة فى الـ«فيس بوك» أصبحوا يفتون فى كل شىء بجهالة عظيمة! من أول مفاعل الضبعة الذرى إلى تسليح الجيش المصرى إلى الخطط الاقتصادية.
وأصبح المعيار المضحك حقيقة عدد «اللايكات» التى وصلت للكاتب المزعوم بالإضافة إلى عدد «التشييرات» لمقالاته العبقرية!
أوهام لا حدود لها يقدم عليها أشباه الكتاب وأنصاف المتعلمين والمثقفين المزيفين الذين لم يقرأوا كتابا واحدا جادا فى حياتهم، ومع ذلك هم يتصدرون الندوات الفكرية ويفتون فى كل الموضوعات.
وقد ذاعت فى الفترة الأخيرة على صفحات الـ«فيس بوك» انتقادات شتى للقوات المسلحة على أساس أنها تدخل فى مجالات مدنية متعددة ليست من اختصاصها.
ولا يعلم هؤلاء الجهلة أن تدخل القوات المسلحة يتم بناء على كونها مؤسسة تتسم بالانضباط الشديد فى مقابل الترهل الفاضح فى المؤسسات المدنية، بالإضافة إلى تأكدها من جودة المشروعات التى تشرف على إقامتها بالتعاون مع القطاع الخاص.
ولا يعلم هؤلاء الجهلة الذين زادت انتقاداتهم فى الفترة الأخيرة أن عديدا من جيوش العالم تقوم بأدوار اجتماعية واقتصادية شتى لنفس الأسباب التى تجعل القوات المسلحة المصرية تقوم بها.
وفى النهاية لا بد أن أقرر فى المقال القادم -بعد أن أنشر مقالى هذا فى الـ«فيس بوك»- عدد «اللايكات» التى حزت عليها وعدد الأشخاص الذين «شيروا المقال» فذلك- فى تقاليد النقد الاجتماعى المنحرف- دلالة على القيمة والأهمية!.