من اختفاء لبن الأطفال، إلى العشوائبة فى اختيار المحافظين، ومن الانفلات فى الأسعار، إلى الفساد الذى زكم الأنوف، لم يعد خافيًا على كل ذى عينين، فشل الحكومة فى مواجهة المشكلات الحياتية، فضلًا عن افتقادها الحس السياسى فى التعامل مع الأوضاع الداخلية المتردية، فهذه الحكومة، لديها قدرات فائقة على اختطاف البهجة من وجوه الأطفال وإغراق غالبية البيوت فى بحورالكآبة، سياساتها راحت تلتهم ما تبقى فى خيالات البسطاء من أحلام، تركتهم فريسة بين أنياب واقع مخيف، مزعج، واقع أصبح فيه المواطن البسيط، مشتت الذهن، فاقد الثقة، غير قادر على استيعاب ما يجرى حوله من عبث، لا يعرف عما إذا كان موجودًا بالفعل على خارطة اهتماماتها، أم أنه أصبح،مجرد، رقم فى سجلات الأحياء، يحاولون الإبقاء عليه ديكور، حفاظًا على الشكل الدستورى لمفهوم الدولة، وإكمال مكوناتها السياسية «أرض ـ شعب ـ نظام حكم»، باعتبار أن الشعب هو مجموع المواطنين، وبدونهم لا توجد دولة. لذا لم يعد بمقدور أحد مهما كان مجافيًا للواقع، إغفال أو تجاهل حالة الغضب المتنامية، فى أوساط شرائح متنوعة جراء السياسات العشوائية، هذه الحقيقة المرة أصبحت مفتاح الحديث لجلسات المقاهى، بعد أن تحول معظمها إلى ما يشبه المنتديات السياسية، كل يدلو بدلوه ويطلق العنان لتصوراته.
قبل أيام كنت طرفًا فى نقاش مع أصدقاء، يقف بعضهم فى الجانب المعاكس لقناعاتى، بضرورة التفرقة بين رأس الدولة والحكومة، وعدم الخلط بينهما فجميعنا يعلم حجم ما يحققه الرئيس السيسى من نجاحات ملموسة على المستوى الاستراتيجى ومستوى العلاقات الدولية، وغالبيتنا يلمس أداء الحكومة المترهل.
فى سياق الحديث، اتهمونى بمعاداة مدنية الدولة، داعما لـ«عسكرتها».
هذا لأننى رأيت أن تدخل الجيش، فى حل أزمة الألبان، مسئولية وطنية لمواجهة مافيا الاحتكارات التى تحكم وتتحكم فى غذاء ودواء هذا الشعب، وما زلت أصر على أن استمرار تدخل الجيش لإنهاء كل الملفات التى فشلت الحكومات المتعاقبة فى حلها ولو جزئيًا، فهذه القناعة راسخة فى وجدانى منذ أن تفتحت أيامى على الحياة، ولأننى لم أضبط نفسى، ولو مرة، متلبسًا بالوقوف فى المنطقة الرمادية، لذا فإننى أحكم على الأشياء، حسب اعتقادى وقناعاتى، إما أبيض وإما أسود، كما أننى لا أستطيع القفز على تلك القناعات ولو على سبيل المجاملة، مصرًا على الاعتراف بأننى عديم الموهبة فى فنون النفاق، رغم يقينى بأننا نعيش فى زمن أصبح فيه النفاق وسيلة مريحة و«سبوبة» مربحة، وهذا لا يحتاج سوى السير فى ركب المطبلاتية، أو الوقوف فى طابور أصحاب المصالح الرخيصة من محترفى التنقل على موائد اللئام، سواء معارضى كل الأنظمة على طول الخط بلا هدف وطنى، لأن مصالحهم تقتضى المعارضة دون سواها، أومؤيدى كل الأنظمة على طول الخط بصورة سطحية تخلو من الفهم والحس الوطنى، وبدون تفرقة بين تأييد الحاكم لشخصه أو نكاية فى نظام سبقه وبين دعم مؤسسات الدولة، فهناك فروق شاسعة. الغريب فى تلك المناقشات رغم حدتها، لم يكن هناك اختلاف على شخص السيسي، ظهر هذا جليًا عندما تطرق الحديث فى البحث عن صيغ وأساليب، مؤداها، كيفية توصيل الغضب من السياسات الاقتصادية والاجتماعية إلى القيادة السياسية، لتوضيح بعض النقاط التى يمكن أن تكون مجهولة، تشكيكًا، فى صحة المعلومات.
على المستوى الشخصى لست ممن يعتقدون أن التقارير التى تقدمها أجهزة الدولة للقيادة السياسية مضللة، ولا تتضمن رصدًا حقيقيًا لمعاناة الناس وتنامى حجم الغضب فى الشارع، بل إننى أرى أن جميع هذه التصورات،لا تخرج عن نطاق «الهرى» فى جلسات تجاوزت حدود النميمة والصوت الخافت، وأصبحت مادة خصبة لتبديد الطاقات فى نقاشات صاخبة،غير مجدية، بالضبط مثل الحرث فى الماء أو الدوران حول الفراغ، فالرئيس يعلم حجم المشكلات ويعطى تكليفاته للحكومة بمواجهة الأزمات، لكن الحكومة فى غيبوبة.
فى النقاش لم أطالب أن تكون إدارة الدولة من خلال الجيش، لكننى قصدت تطبيق حزمة من القواعد التى تساهم فى إنجاح أى دولة قبل فوات الأوان، ما أقصده يتمثل فى.. القدرة على التخطيط.. البراعة فى إدارة الأزمات الطارئة بأسلوب علمى...الانضباط.. تطبيق مبدأ الثواب والعقاب لتنمية الطموح... تنفيذ التعليمات باحترافية... الانتهاء من المهام الموكلة لكل مسئول وفق جدول زمنى محدد... الدقة المتناهية فى الأداء.. تحديد المسئوليات.. الجرأة فى اتخاذ القرار المناسب فى الظرف الملائم...المهارة فى تذليل العقبات.
كل تلك القواعد لسنا فى حاجة لاستيرادها من الخارج، ولسنا فى حاجة لتكليف مكاتب خبرة دولية لإعدادها وإرسال بعثات لتدريب المسئولين عليها، فهى متاحة ومعمول بها فى«المؤسسة العسكرية»، الأمر الذى جعلها محل ثقة الشعب فى كل ما يتعلق بالمشروعات التى توكل إلى جانب مهامها الأساسية، خاصة إذا تأملنا الشعار الذى ترفعه وتقوم بتطبيقه على أرض الواقع «يد تبني. ويد تحمل السلاح»، الشعار لم يكن عشوائيًا أو عبارات إنشائية حماسية لكنه حقيقة تجسدت فعليا فى كل المهام التى تقوم بها.
داهمتنى تلك التصورات أثناء متابعتى لتفاصيل أزمة لبن الأطفال، باحثًا عن مسئولية وزير الصحة فى الأزمة المفتعلة، وجدت أن ما فعله الوزير ينطبق عليه القول المأثور «جاء يكحلها، عماها»، فالوزير بدلًا من أن يواجه الأزمة بشفافية، ويعلن بشجاعة، تحديه لتداعياتها الكارثية، على المستويين السياسى والاجتماعى، حاول التنصل من مسئوليته، كاشفًا بجلاء عن اتساع مساحة الخراب داخل وزارته وقبح سياساته، أو بمعنى أكثر دقة سياساته «الكارثية»، بدلًا من المواجهة بمسئولية رجل الدولة بحكم كوقعه، ألقى الكرة فى ملعب آخر، قال إن الجيش، سيقوم بإنهاء أزمة اختفاء لبن الأطفال وسيقوم بتوزيع ٣٠ مليون عبوة دون أن يقول إن الجيش لجأ للاستيراد، حتى لا تقع سلعة استراتيجية تحت رحمة مافيا يدعمها وزير الصحة بقراراته. تركت التصريحات غبارًا كثيفًا فى أوساط الرأى العام، وفتحت الباب أمام جوقة العازفين على أوتار «الطنطنة»، ممن صار شغلهم الشاغل توجيه سهام الانتقادات المغلفة باتهامات سياسية «قميئة» ضد الجيش، تبعهم آخرون دون دراية منهم بطبيعة الواقع المرتبك، ومن دون قراءة موضوعية لحدود المسئوليات الدستورية والتاريخية التى تقع على عاتقه، من الآخر، رجل الدولة أثار لغطًا ضد سياسات الدولة، صار الوزير بدون أن يدرى، وزيرًا « فيسبوكيًا». يطلق تصريحات مبتورة، سرعان ما تتحول مادة دسمة للتعليقات الساخرة،الهمجية، غير المسئولة، يطلقها كل من هب ودب بهدف الإساءة للجيش.