تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
قد يبدو تخصص علم النفس السياسي أول وهلة بعيداً عن موضوع هو أقرب للتاريخ أو الفكر السياسي، وليس من المتصور أن نتحدث عن نهضة عربية من دون أن نسلّم من البداية بوجود أمة عربية، والأمة تقوم- في ما نرى- على توافر شروط تتعلق بالمكان، والاقتصاد، واللغة، والتاريخ. ولكن هذه الشروط تكتمل بالتكوين النفسي المشترك الذي يعد ركناً أساسياً لتكوين الأمة؛ أي ببساطة أن يرى أبناء الأمة أنهم جماعة، وأن يراهم الآخرون أيضاً بوصفهم جماعة، ويفيض التراث بما لا حصر له من كتابات عن الشروط الجغرافية والاقتصادية والتاريخية لتكوين الأمة، وفي الوقت نفسه، فإن ندرة ما كتب عن شرط التكوين النفسي المشترك مقارنة ببقية الشروط تستوقف النظر، على الرغم من أن هذا التكوين يعد حجر الأساس في الوعي بالانتماء للجماعة. ولسنا بصدد الوقوف أمام أسباب ذلك التجاهل مع أهميتها، لكن من المهم أن نبين في البداية مدى اتصال علم النفس السياسي بموضوع الانتماء العربي.
يقوم علم النفس السياسي على التسليم بأن هوية الجماعات البشرية تتوقف على الإدراك المشترك لأبناء الجماعة لهويتها؛ أي إدراكهم لانتمائهم لها، وتمايز جماعتهم عن غيرها من الجماعات، إننا ننتمي للعروبة وللدين ولدولنا، فضلاً عن قائمة طويلة من الانتماءات المهنية والعمرية والرياضية... إلخ، ولكن مصدر الخطأ والخطر أننا على مستوى الخطاب الرسمي نخلط بين بيانات البطاقة الشخصية أو جواز السفر، التي تبين جنسية الفرد ومحل إقامته، وربما ديانته، التي هي بحكم طبيعتها في الوثائق الرسمية بيانات متساوية الأهمية، وبين "انتماءات الفرد" التي تتدرج وفقاً للأهمية وللموقف تبعاً لعمليات التنشئة الاجتماعية التي مر بها الفرد عبر حياته والتي من خلالها يكتسب انتماءه لمختلف الجماعات ومنها الجماعة القومية، ليس من مجال للحديث عن جينات وراثية تميز جماعات معينة من البشر لا سبيل أمامهم للتخلص منها ولا سبيل لغيرهم لاكتسابها؛ فالإنسان يولد طفلا ثم يتم تدريبه على الانتماء للوطن وللدين وللقبيلة وللأمة وللدولة ولغير ذلك من أنواع الانتماء، ويتم تعريفه كذلك بمن هم أعداؤه، ومن هم أصدقاؤه، وكيف ينبغي أن يتعامل مع هؤلاء وهؤلاء.
الانتماء في النهاية انتماءٌ لجماعة من البشر، قد يتسع نطاق هذه الجماعة لتصبح "الشعب" أو "الأمة" أو حتى "البشرية"، كما قد يضيق نطاقها لتصبح "العائلة الكبيرة" أو "العائلة الصغيرة" أو حتى أضيق من ذلك في بعض الأحيان المرضية، ومن ثم فإننا ندرب أطفالنا منذ البداية على توسيع أو تضييق حدود الجماعة التي ينتمون إليها، ولا يكون ذلك بحال من خلال التلقين والكلام والتعليمات فحسب، بل من خلال الممارسة الفعلية في المقام الأول، وممارساتنا نحن الكبار حيال الآخرين، والتي يمتصها الطفل ويتمثلها، وكذلك ممارساتنا حيال تصرفاته هو في هذا الصدد ثوابًا أو عقابًا، فمن خلال تلك الممارسات ننمي لدى الطفل الاستعدادًا الأولي لتوسيع أو لتضييق نطاق "النحن"•
ولا تخلو الحياة اليومية من مواقف عملية يجد فيها المرء أنه مطالب باتخاذ قراره وفقاً للانتماء الذي يحتل رأس القائمة، وبما يحكم بقية الانتماءات، موجهاً سلوك الفرد وتصرفاته في تلك المواقف. فهل يحتل انتماؤه لجماعته القومية المكانة الأولى، أم انتماؤه لجماعته الدينية، أم لجماعته الوطنية القطرية؟
إن مفاهيم مثل "تعاون دول الجوار"، و"المصالح الاقتصادية المشتركة"، و"إقامة التحالفات في مواجهة عدو مشترك" إلى آخره تختلف اختلافا جوهريا عن مفهوم "الانتماء القومي"؛ ورغم ذلك فكثيرا ما نخلط بين تلك المفاهيم بحيث تبدو كما لو كانت مترادفات.
قضية الانتماء إذن، وهي قضية نفسية في جوهرها، تعد حجر الزاوية في حديثنا عن انتمائنا نفسيا للعروبة، ولعل لحديثنا بقية.
Kadrymh@yahoo.com