«افتحوا الكتب، تفتح لكم الأبواب المغلقة، فالحاضر بين أيديكم، والمستقبل لا ينتظر» هى أول عبارة صافحتنى فى أحد شوارع لبنان أثناء زيارتى له، ذكَّرتْنى بفيلم «٤٥١ فهرنهايت» المأخوذ عن رواية الكاتب الأمريكى «راى برادبورى»، التى صفعت وجه العنف والإرهاب الثقافى الذى مارسه السيناتور «جوزيف مكارثى» على الكُتَّاب والمثقفين فى أمريكا عام ١٩٥٧، والذى دمَّر كل الأفكار الإنسانية الجميلة، وحطَّم حقيقة الإنسان وجوهره، وهو إخراج «فرانسوا تريڤو» -كاتب السيناريو- أحد رواد موجة التمرد والثورة والتغيير فى السينما الفرنسية.
يطرح الفيلم فكرته فى مدينة غير محددة، وزمن غير محدد، وحكومة غير محددة، تُحرِّم قراءة الكتُب، والتعامل مع الحرف والكلمة، لصالح نظام شمولى، يغزو العالم فى المستقبل، ويجعل من «التليفزيون» أداة دعاية سياسية له.
تتلاشى تمامًا فى مشهد البداية أسطح المنازل خلف شبكات وأطباق استقبال البث «التليفزيونى» لمختلف القنوات الفضائية، وهى نفس تفاصيل المشهد الصادم الذى تراه إذا وقفت أعلى أحد كبارى القاهرة، ثم تهجم فرق من رجال إشعال الحرائق، المتخصصة فى حرق الكتب، اسمها «٤٥١ فهرنهايت» -درجة احتراق الكتب- على الأمْكنة، لتشعل الحرائق فى الكتُب، وتصادرها أينما وجدت.
يستمتع البطل -أحد رجال الإطفاء- بوظيفته التى ظل يعمل بها لعشر سنوات، وهو يتلذذ بصفحات الكتب تأكلها النيران فى مهمات منتصف الليل.
يلتقى مصادفة بفتاة جميلة ومثقفة فى السابعة عشرة من عمرها، تلح فى طرح الأسئلة، لماذا تحرقون الكتب؟! وكيف؟! ومتى؟! ويدور حديث طويل بينهما، ثم تسأله: هل قرأت كتابًا واحدًا، أو صفحةً واحدةً، أو حتى عبارة ًواحدةً من هذه الكتب التى تحرقها، فيرد: هذا جزء من عملى، فالكتب مجرد زبالة، ليس فيها ما يُثير، فهى تمنع السعادة، وهذا ضد المجتمع.
أضاء سؤالها روحه المتجمدة فجأة كمصباح الكهرباء، دفعها إلى سرقة كتاب، أخرجه من جيبه فى إحدى الليالى، وبدأ يقرؤه، ليعرف سر هذه الأشياء الممنوعة، التى يفضل الناس أن يحترقوا معها، ويندمج -تدريجيًا- فى هذا العالم السحرى، الذى لا يعلم عنه شيئًا، ليكتشف أنه شخصية ضائعة، لم تعش الحياة التى تستحقها.
يقول له رئيسه فى جلسة ود: «كانت الحياة فى الماضى هادئة، وتسمح بالاختلاف، ثم تسارعت الحركة فى القرن العشرين، فصارت الكتُب هى الطريق الأقصر، ثم اقتطعت إلى مجرد مختارات، فكل ما ينبغى أن نفعله هو إدارة عقل الإنسان فى آلة الطرد المركزى، لسحق كل أفكاره غير المجدية، ونَشْر المزيد من الرسوم الهَزْلِيَّة، ومنح الناس صورًا عديدةً، وتحريضهم على ممارسة الرياضات الجماعية، التى تُغْرِى بعدم التفكير».
«هل تَذْكُر -فى طفولتك- كيف كنت تكره الصبى الذكى فى الصف، وتختصه بالضرب والتعذيب بعد الدراسة! إنه خوفك المبرر من أن تكون أقل من الآخرين، لذا خُذْ صراعاتك إلى المحرقة، فالنار نقية طاهرة، فهى تحل كل شىء».
«نُخَفِّض سن دخول الحضانة عامًا بعد عام، حتى نكاد اليوم ننتزعهم من المهد إلى الحضانة، ونُشْرِك الناس فى مسابقات يربحون فيها، إذا ما تذكروا أسماء الأغانى الشهيرة، أو أسماء عواصم الولايات، أو كمية القمح الذى أنتجته ولاية «أيوا» العام الماضى! نَحْشو عقولَهم بالحقائق سريعة الاحتراق، حتى يشعروا أنهم أذكياء».
«(التليفزيون) يغرقهم فى عالم الأصوات والألوان، فيقدم لهم الأفكار الجاهزة، فلا يجدون الوقت للتفكير أو النقد».
«إن الكتب لا تقول شيئًا، فإذا كانت قصصًا، فهى تتكلم عن بشر، لا وجود لهم، وإذا لم تكن، فالأمر أسوأ، وستجد دومًا أستاذًا يعتبر الآخر أبلهًا، أو فيلسوفًا يحاول خنق آخر، فالكل يكافح من أجل مَحْو النجوم، وإطفاء الشمس، لكن النار وحدها تستطيع تطهير كل هذا».
رسالة الفيلم المقتحمة والنافذة هى أن حرق الكتُب ومصادرتها هو الإرهاب بعينه، الذى لا يريدك أن تعرف، أو تفهم، بل يغلق أمامك كل شبابيك وأبواب المعرفة، حتى لا تتنفس، ولا تعيش، فهو يرفض كل شىء إنسانى فيك، ويخطط إلى جعلك مجرد كائن، ليس من حقه أن يفكر.
يقول البطل لزوجته: «حطمت حياتك أمام شاشة (التليفزيون)، لكننى لن أفعل، لقد وجدت عائلتى الحقيقية (الكتب)، التى أيقظت إنسانيتى بعد أن أوشكت على الموت».
وأخيرًا يندمج البطل مع الثُوَّار، الذين اعتزلوا المدنية، ويعيشون وحدهم بعيدًا، ليجعلوا مهمتهم الحفاظ على كل التراث البشرى، فكل واحد حفظ كتابًا بعينه، حتى صار هو الكتاب ذاته، فرجل هو «التوراة»، أو امرأة هى «هاملت»، أو صبى هو «مَاكْبِث».
وفى مشهد النهاية تنشب الحرب النووية، ليبقى أمل وحيد، هو محاولة استعادة كل ما اختزنه البشر فى صدورهم من تراث إنسانى عريق، ويردد البطل عبارته الشهيرة: «فى يوم ما سيردد كل البشر ما تعلمناه، وستُطبَع الكتُب من جديد، ولن يستسلم الإنسان للتخريب، من أجل الفكر، والعمل، والمشاعر، والعواطف، والعقل، والروح، فمن يملك كل هذه الأشياء، ويحرص عليها، يستطيع أن يفهم، ويقاوم، ويعيش».