السبت 23 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

قليل من الماء يطهرها

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يعرف العجائز والشيوخ على اتساع الوطن، من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، قيمة المعنى، وعمق المغزى، من الروايات التى تنطلق فى سياق التعبير عن حدث ما، يتداولونها فيما بينهم، فتصبح جزءا من مكونهم الثقافى الساخر، الناقم، تتناقلها الأجيال المتعاقبة، يتم ترديدها، دون النقاش فى مدى صحتها كراوية مشحونة بالوقائع، ودون التوقف عند شخوصها، عما إذا كانوا بشرا من لحم ودم، يعيشون على كوكبنا، نراهم ونعرفهم، أم أنهم شخصيات خيالية، يتم استدعاؤهم من موروث السخرية، للتعبير عن المفارقات على طريقة «القفشات» بهدف وصف الأشياء والمواقف بطريقة ساخرة تحوى معانى مستترة، خاصة أن المصريين إن لم يجدوا شيئا يسخرون منه، فإنهم يمتلكون براعة السخرية من أنفسهم وعلى أنفسهم، سواء كانت السخرية من مراراتهم الأزلية أو معاناتهم الحياتية، يجلجلون بالضحكات من قلوبهم إلى حد البكاء، يتبادلون النكات فيما بينهم على طريقة الحشاشين وأصحاب المزاج من مرتادى «الغرز»، لإسقاطها على الواقع بأسلوب لاذع.
هذا الأسلوب، وإن كان متوارثا عبر الأجيال المتعاقبة، إلا أنه أضفى عليهم ميزة عن سائر شعوب الأرض فى التعبير عن مواقفهم وآرائهم فى شئون الحياة على كل مستوياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ورغم أنها تندرج تحت المزاح إلا أنه مزاح مشحون بفلسفة عميقة، تحوى بين طياتها دلالات متنوعة ومعانى متعددة، بما يؤكد قدرة هذا الشعب على ابتكار المفردات الساخرة فى التعبير عن الرأى فى أشد أوقات الكآبة، يطلقونها بطريقة مغايرة للقوالب التقليدية المعروفة فى أوساط محترفى السياسة.
لعل أبرز تلك القصص المعبرة عن ازدواج المعايير فى الحكم على الأشياء داخل مجتمعاتنا ما يتم تداوله فى جلسات النميمة من الصالونات إلى المصاطب، إسقاطا على المتناقضات التى يعيشها مجتمعنا، بفعل غياب الشفافية، الأمر الذى ترك انطباعات متقلبة لدى الكثيرين، حول السياسات الفاشلة للحكومة وأكاذيب المتربصين بالنظام، أقول المتربصين وليس المعارضين أو منتقدى السياسات العشوائية، فإذا جرى الحديث بتلقائية عن البناء وليس الهدم، تجد من يتهمك بعدم القدرة على المواجهة، يعنى عليك، بدلا من انتقاد الحكومة، أن يذهب الانتقاد إلى السيسي، وإذا كانت لدى أى منا الجرأة فى اتهام المأجورين بالسعى لإثارة الفوضى وتخريب البلاد، يقولون لك، أخطاء المعارضة فى حق الدولة أقل بكثير من خطايا النظام فى حق المعارضة، بما يعنى ضرورة غفرانها ووجوب هدم النظام، كل هذه الأحكام الفوضوية ذكرتنى بقصة سمعتها كثيرا.
ذات يوم خرج أحد الشيوخ من أحد المساجد متوجها إلى منزله، بينما هو فى طريقه مر على جمع من الناس يصنعون ضجيجا وشجارا فيما بينهم، سأل ما الذى جرى؟
قصوا عليه الحكاية المثيرة التى حرضتهم على التجمهر فى وسط الطريق، مفادها أن اثنين من الجيران يفصل بين منزليهما جدار مبنى بالخرسانة منذ أزمنة بعيدة، أحدهما لديه كلب «بال» على الجدار، فغضب الجار وعاتب صاحب الكلب، على ما فعله كلبه، إلا أن بعض الناس تدخلوا كفريقين متنافرين، انحاز كل منهما لصالح أحد طرفى المشكلة التى نشبت بسبب الكلب، قال الشيخ بعد أن أصغى الجميع آذانهم إليه، لابد من هدم الجدار الفاصل بين المنزلين لأنه صار نجسا «من النجاسة»، وبالتالى ستنتقل النجاسة إلى أهل المنزلين، بما يوجب عليهما جميعا التطهر من هذا الدنس، انصرف صاحب الفتوى، تاركا خلفه ضجيج الحاضرين يتعالى بالتهديد والوعيد بتنفيذ فتواه، على الفور خرج «المهاويس» دعاة الرقص فى الأفراح ومحترفى اللطم فى الجنازات، حاملين الفئوس والمعاول لهدم الجدار المدنس، بل هدم المنزلين على رأس من فيهما، للتطهر من النجاسة، حاول أحد العقلاء من المارين مصادفة أمام الحشد، تهدئة الأوضاع وامتصاص غضب الثائرين، فسألهم من الذى أفتى لكم بهذا؟.. قالوا، شيخ يؤمنا فى الصلاة، ويحكم بيننا فى نزاعاتنا، ويرشدنا لما فيه صالح بلادنا، نلجأ إليه ليخبرنا بالحكم على ما يفعل السفهاء من غيرنا بنا، فقال الرجل، لكن شيخكم هذا لم يكمل لكم حكمه، فهو لم يخبركم بمن الذى سيبنى ما سوف تهدمونه بأيديكم، أو يدلكم على مأوى بدلا من أن يترككم فى الخلاء عرايا، جوعى.
انطلقوا خلف الشيخ مسرعين للحاق به، لكن الشيخ كان على موعد مع واقعة مماثلة، كان هو طرفا فيها، فقبل أن يصل منزله وجد ضجيجا وتجمعا من الأهالى الغاضبين، كانوا جميعا فى انتظار عودته من المسجد، أخبره أحد المارة أن «كلبه» بال على الجدار الفاصل بينه وجيرانه من الناحيتين، وأن الغضب يتملك الجمع الواقف أمام منزله، وعندما وصل إليهم، تجاهل درايته بالواقعة رغم علمه بها.. أوقفوه، قالوا له، أفتنا يا شيخ، ما الحكم على صاحب كلب، «بال» كلبه على الجدار الفاصل بينه وجاريه من الناحيتين، قال : هناك أكثر من رأى للفقهاء، وكل منهم أدلى بدلوه حسب الحالة وطبيعة المتخاصمين، أى «طرفى النزاع» فإن كانت سماتهم من أهل الخير، يصبح تفهم الوضع أمرا حتميا، فصاحب الكلب لم يحرض كلبه على ارتكاب ما فعله.. كان أهل الواقعة الأولى قد لحقوا به، لكنه لم يشعر بوجودهم بين الحاضرين، فقالوا له، يا مولانا، أليس «بول الكلب» نجسا؟.. أدرك، أنه أفتى فتوى مغايرة عن نفس الأمر منذ قليل، فقال: فى الحالة التى تتحدثون عنها، لا يوجد دليل قاطع على أن نجاسة «بول» الكلب تنتقل مثل العدوى، وبالتالى «بول» الكلب لا يدنس سوى مكانه، وهذا لا يحتاج مجرد هدم جزء من الجدار، فقليل من الماء يطهره.
الرواية ليس فيها ما يشير الى إضفاء الأهمية على شخص الشيخ، والمراد بالشيخ هنا، النخبة التى تشوه حياتنا بتصريحات وهرتلات وفتاوى عن قضايا وهمية، ليس لها وجود سوى على صفحات التواصل الاجتماعى وجنرالات «الهرى» فى المعقول واللامعقول، كما أن الرواية تهدف إلى التنبيه والتحذير من نفخ نيران الفتنة بدعاوى مضللة، فالمغزى من هذه القصة التى لا أعلم مدى صحتها، رغم يقينى بتداولها ودرايتى بتفاصيلها منذ سنوات الصبا فى السنوات البعيدة، المغزى واضح كالشمس، فعناصر التربص يسعون للهدم مثلما جرى قبل ذلك، الهدم دون سواه، استثمارا للخناقات السياسية التى تحيط بها زفة، فى الفضائيات وعلى الشبكة العنكبوتية، بهدف النيل من البلد، وهو أكبر من الحكومة والنظام وأبقى من الجميع، لذا صار ضروريا أن يخرج العقلاء بأطروحاتهم لوأد الفتنة التى تصنعها الحكومة بغباء شديد بإهمالها للملفات الأساسية، وخروج بعض وزرائها بتصريحات لا تليق بمواقعهم فى السلطة.