كانت إشارة الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى الإصلاحات الاقتصادية التى حاول الرئيس الأسبق والشهيد محمد أنور السادات اتخاذها عام ١٩٧٧، كونها بداية خطوات الإصلاح الحقيقى لهيكل الاقتصاد المصري، تجسيداً لشجاعة جندى يعرف متى يتخذ القرار والموقف الدقيق، على أرض مفخخة يحيطها رماة بسهام طائشة لا تميز بين الصالح والطالح.
فقد اختار الرئيس موقفا وتوجها كانا سببا فى إثارة النخبة اليسارية والناصرية وتحرك شعبى قالوا إنه كاد يطيح بشرعية السادات، بينما هو يعلم جيداً أن المناخ لا يزال معبأً بغبار الخطاب الناصري، وأن سهامه الطائشة ستحاول النيل من سياساته، ومشروعيته كرئيس.
الحديث هنا ليس معنياً بتقييم التجربة الناصرية، وإنما الخطاب الناصرى الذى ساد منذ مطلع السبعينيات حتى اليوم والذى هو شقيق وشريك للخطاب الإسلامى فى الانحدار بأخلاق المصريين وهدم منظومة القيم الأساسية.
الخطاب الناصرى يكرس منذ ظهوره للبيروقراطية الفاسدة التى نشأت بفعل تكديس الجهاز الإدارى وشركات القطاع العام للدولة بآلاف الموظفين سنوياً، وقد نتج عن ذلك الوضع ما سُمى بالبطالة المقنعة، وفى المقابل أصبحت الدولة مجبرة على صرف رواتب وحوافز وأرباح لجيش من العاطلين.
فكانت النتيجة الطبيعية أن تنهار قيمة العمل وتتفشى أمراض الرشوة والاختلاس وجميع صور الفساد المالى والإدارى داخل دوائر الحكومة وسريعاً انتقلت عدوى تلك الأمراض إلى شرائح الحرفيين والمهنيين، بل، وأيضاً داخل قطاع لا بأس به من موظفى القطاع الخاص.
ويزيد من تلك الأمراض استمرار دعم الدولة لسلع وخدمات يصل معظمها إلى غير مستحقيها، على نحو يكرس نمط الدولة الأبوية التى ترعى مواطنيها كأتباع لا كشركاء، وهو ما يعنى من الناحية السياسية خلق نظام استبدادى ديكتاتورى. فى المقابل نشط الخطاب الإسلامى ليتلاعب بالعقل والوجدان لتسود تعبيراته المختلفة والمرتبطة فى أغلبها بالمظهر، وراح فى الوقت ذاته يشيع قيماً جديدة قائمة على التواكل ورفض كل حديث والتفرقة بين المصرى والمصرى على أساس الدين، وكلها منظومة تعارض قيمة العمل والإنتاج وتعظم من نمط الحياة الاستهلاكية والاقتصاد القائم على السمسرة.
هنا يتحالف الشقيقان الإسلامى والناصرى لينحدرا لمنظومة القيم والأخلاق العامة، وقد كان لذلك التحالف تعبيراته السياسية المختلفة لنشأة ما يسمى التيار القومى الإسلامي، ولجوء الخطاب الناصرى للمزايدة على نظام الرئيس الأسبق مبارك بدعم تحركات جماعة الإخوان الإرهابية وغيرها من تنظيمات الإسلام السياسي، ويمتد هذا التعبير السياسى إلى اللحظة الراهنة بالهجوم الشرس الذى يشنه الشقيقان على سياسات وبرنامج الرئيس للإصلاح الاقتصادي، ودعوة بعض الناصريين إلى السماح بظهور أحزاب سياسية بما يسمى بالإسلام السياسى بما فى ذلك الجماعة الإرهابية تحت دعوى أن المادة الثانية من الدستور تنص على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع، رغم إدراكهم أن المادة الثانية ذاتها أشارت إلى أحكام المحكمة الدستورية العليا لتعريف مبادئ الشريعة والتى عرّفتها بالمقاصد الأساسية للشريعة الإسلامية والتى تدور فى مجملها حول الحق فى الحياة اللائقة والكريمة وحماية الملكيات والحريات الخاصة والعامة واحترام الإنسان بتوفير منظومة للعدالة الاجتماعية تتمتع بالكفاءة اللازمة، وهى أمور بعيدة تماماً عن عقل ووجدان الإسلام السياسى على إطلاقه.
لا أظن أننا سنعيد الخطأ للمرة العاشرة بالاستجابة لهذا الخطاب الذى ضيع وقت الوطن فى مهاترات طوال ٤٠ عاما، فأهم ما فى برنامج إعادة هيكلة الاقتصاد المصرى أنه يفكك الدولة الأبوية ويخلق وعيا لدى المواطن كونه شريكا لنظام الحكم فى إدارة شئون الوطن بتحمله جانباً من أعبائه، وإدراكه أن العمل الجاد وحده سبيل الحياة الكريمة ولذلك مردوده الأخلاقى والسياسي، إذ لا مكان فى علاقة الشراكة للنظام الاستبدادى وهو ما يعنى أننا بصدد دولة تسعى جادة إلى مفرطة نظامها السياسى علاوة على أنه يدعم دور القطاع الخاص كشريك فى عملية البناء على عكس الدعاية السوداء التى تروج زوراً باتجاه الرئيس نحو عسكرة الدولة.