«من يملك ماءً ونورًا فلا مبرر عنده للضجر».. هذا المثل الإنجليزى إذا طبقناه على مصر فسنجد أن الله قد وهبها من نعمه ما يفترض أن يمنع عن شعبها الضجر.. وهو ما أدركه أولو الألباب وأصحاب الإحساس المرهف من مبدعى الماضى، كالشاعر بيرم التونسى الذى تغزل فى مائها ونورها فى إحدى روائعه التى غنتها كوكب الشرق أم كلثوم «شمس الأصيل دهبّت.. خوص النخيل يا نيل.. تحفة ومتصورة.. فى صفحتك يا جميل».. ولكن هل أحسنا التعامل مع نعم الله التى وهبنا إياها؟!.. أم أننا لا نشعر بقيمة ما نملك إلا عند الإحساس بالخطر؟!.. وهو ما حدث بعد أزمة سد النهضة التى شغلتنا جميعا.. لكونها تمثل تهديدًا مباشرًا لحياة المصريين لتأثيرها على حصتنا من مياه النيل، والتى تبلغ (٥٥ ونصف مليار متر مكعب).. وهى نفس القدر المخصص لنا منذ القرن التاسع عشر، رغم أن عدد السكان تضاعف لأكثر من عشرة أضعاف حتى الآن!!.. فهل من المفترض أن نكتفى بالبحث عن حلول سياسية للأزمة دون أن نحاسب أنفسنا أولًا، لنمنع الخطر الذى نلحقه بأنفسنا قبل أن نمنع خطر غيرنا!!.. أم أننا سنظل نتعامل بعشوائية ولا نعى (شعبًا وحكومة) قيمة النعمة التى نهدرها ثم نتباكى على حصتنا من مياه النيل!!.. ويا ليتنا نهدر المياه فحسب، بل نهدر المياه النظيفة التى تنفق الدولة مليارات من أجل تنقيتها!!.. فى نفس الوقت الذى يعيش فيه ملايين المحرومين من كوب الماء النظيف!!.. وقد استمعت لأحد أعظم خبراء مصر على المستوى العسكرى والمدنى وهو اللواء الدكتور ممدوح عطية (كبير معلمى القوات المسلحة وأحد مؤسسى سلاح الحرب الكيميائية) والذى كان يتوجع ويكاد ينفطر قلبه من سلوكنا مع المياه النظيفة التى تكبد الدولة أموالًا طائلة مقابل تنقيتها من خلال مواد التبييض الخاصة بتعقيم مياه الشرب، ولأنه كان مسئولًا عن سلاح الحرب الكيميائية التى تمد مؤسسات الدولة المعنية بمواد تعقيم المياه فيعلم تمامًا تكلفة كل نقطة منها.. وبخفة ظل كان ينتقد سلوكيات السيدات اللاتى يفتحن المياه ويتركونها عند غسيل الخضروات والفاكهة قائلا: «علشان تغسل حزمة جرجير بقرش تكبد الدولة ٢٠٠ دولار من المياه النظيفة».. كذلك انتقد بشدة الأدوات الصحية الحديثة (كالحنفيات) التى بمجرد لمسها تتدفق منها المياه بغزارة شديدة مما يؤدى لاستهلاك كمية هائلة لكى يتوضأ شخص واحد!!.. بالإضافة للكم الهائل الذى يستخدمه البوابون فى مسح العمارات وغسيل السيارات.. وقد حكى عما كان يشاهده فى طفولته من أن بعض المناطق فى القاهرة كانت تمتلك خطًا للمياه النظيفة وآخر لما يطلق عليه «المياه العكرة».. والتى كان لا يتم تنقيتها كمياه الشرب وتستخدم لرى الزرع أو للنظافة وغيرهما.. وضرب مثلا بالاتحاد السوفيتى السابق الذى درس فيه، والذين كانوا يشترون فيه مياه الشرب من خلال جراكن يتم بيعها.. وعلق متعجبًا «ده روسيا الاتحادية بجلالة قدرها وغيرها من الدول الكبرى لا تقوم بتنقية المياه فى المنازل وبالتالى لا تصلح للشرب».. وقد تعجبت حين سمعت عن إحدى الدراسات التى قارنت بين استهلاك المياه فى «مجمع التحرير» أيام العمل، وأيام الإجازات فثبت أن نسبة الاستهلاك متساوية تقريبًا.. مما يعنى أن دورات المياه تعمل باستمرار دون توقف سواء بسبب عدم كفاءة الأدوات الصحية المستخدمة أو عدم إصلاحها.. أو بسبب سوء الاستخدام وفتح المياه دون إغلاقها.. وهو ما رأيته كثيرًا فى بعض الأماكن العامة والنوادى وكنت أضطر لإغلاقها، لشعورى بحرمة إهدارها وهناك من هم أحوج ما يكون إليها رغم عدم علمى آنذاك بالتكلفة الباهظة لكل نقطة مياه نظيفة!!.. وهو ما يعنى أننا نفتقد الثقافة السلوكية فى المياه والكثير من الشئون الحياتية، والتى نلوم فيها وزارة الثقافة وأجهزة الإعلام لأن كلًا منها منوط بتوعية الشعب وسلوكه الذى يعكس ثقافته!!.. فمن المحزن أن يكون الفاقد فى مياه الشرب حوالى (٧٥٪) من الكميات المنتجة طبقًا لتقارير المجالس القومية المتخصصة، رغم أن نسبة الفاقد المسموح بها عالميا (٢٥٪) فقط!!.. لذا فإننا نحتاج لحملات توعية مكثفة، ونحتاج الاستفادة من العلم وخبرات الدول التى سبقتنا.. ولنا فى الكيان الصهيونى الذى نبغضه أسوة!!.. فرغم معاناتهم من الندرة المائية وضيق الموارد إلا أنهم أصبحوا من الأوائل فى مجال تنقية المياه وتحلية مياه البحر.. واستطاعوا أن يكونوا الأشهر فى زراعة المحاصيل المختلفة وتهجينها.. ليس فقط لتحقيق الاكتفاء الذاتى ولكنهم غزوا العالم بمنتجاتهم الزراعية!!.. لأنهم استطاعوا استغلال كل نقطة مياه بحيث تنتج خمسة أضعاف الطبيعى!!.. نريد أن نتعلم كيف نحسن استغلال مواردنا.. وبدلًا من أن ننتقد الدولة كالببغاوات فى بعض المواقف مثل عدم تحقيق الاكتفاء الذاتى من القمح، علينا أن نسأل أهل الذكر.. مثل د. ضياء الدين القوصى (خبير الموارد المائية ومستشار وزير الرى الأسبق) والذى قال فى إحدى ندواته «إن حبة القمح الواحدة تتكلف ٣ لترات مياه!!».. وبالتالى علينا أن نبحث عن مصادر أخرى أقل تكلفة لتأمين غذائنا.. فعلى الدولة أن تبحث عن حلول واقعية تجعلنا لا نسىء استخدام نعمة جعل الله منها كل شىء حى.. ويكون شكرنا للنعمة بالمحافظة عليها.. عملًا بما قاله ابن عطاء الله السكندرى أحد أئمة الصوفية: «من لم يشكر النعمة فقد تعرض لزوالها ومن شكرها فقد قيدها بعقالها».
آراء حرة
وجعلنا من الماء كل شيء حي
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق