يبدو أننا، قولًا وفعلًا، نعيش فى زمن العجائب، فمصر صاحبة الـسبعة آلاف سنة حضارة، الزاخرة بأهم تراث إنسانى، أثار إعجاب العالم، بآثار ممتدة على مدى التاريخ. تعيش الآن مهرجانًا من الغرائب واللا معقول، خاصة فى مجال البيزنس، بعد أن تحول إلى سوق مفتوحة للفهلوة، والشطارة بشكل غير موجود فى أى بلد فى العالم، الجميع يرى ويسمع كل هذه المفاسد ولا يتكلم خاصة المسئولين فى بلادنا، فتحول البيزنس إلى حالة جشع لا مثيل لها فى كل المجالات.
تعالوا نرصد بعض هذه المهازل. ففى المدارس الخاصة والجامعات تحول البعض منها إلى بيزنس جشع، يمصّ أموال الغلابة الحالمين بأن يلتحق أبناؤهم بهذه المؤسسات التعليمية، التى تضع شروطًا وهمية لإلحاق أبنائهم بالمدرسة، فتسحب المدرسة أموالك فى إجراءات الالتحاق، ثم بعد ذلك تعتذر لك عن عدم قبول ابنك لأن «الأعداد لديها قد اكتملت»!
أعرف صديقًا لى كان يمنّى نفسه بأن يلتحق ابنه «الطفل الصغير البالغ من العمر ٤ سنوات» بمرحلة «KG١» بواحدة من ثلاث مدارس، ففوجئ فى كل مدرسة يذهب إليها بأنها تطلب منه ملء استمارة ثمنها ٥٠٠ جنيه، ثم تحدد له موعدًا لعمل اختبارات للطفل، وما هى إلا أيام قليلة حتى تتصل به المدرسة لتعتذر له عن رفضها ضم ابنه إلى فصولها، لأنها أصبحت كاملة العدد، وأن الطفل جاء متأخرا، وعندما سأل صديقى عن ثمن الاستمارة التى دفعها قالوا له: «ليس لك أموال لدينا».
أما المدرسة الثانية فكانت فى ردها «أشيك» بعد أن دفع نفس المبلغ، إذ قالت إدارة المدرسة لصديقى: «مستوى الطفل لا يؤهله للالتحاق بفصولنا، وثمن الاستمارة كان نظير الاختبار». وفعلت المدرسة الثالثة نفس الأمر.
على الجانب الآخر، إذا كنت من المحظوظين الذين يلتحق أبناؤهم بإحدى الجامعات الخاصة، فعليك أن تبيع كل غالٍ وثمين، كى تستطيع أن تجد له مكانًا فى إحدى الكليات. فاستمارات الالتحاق تباع بـ ١٠٠٠ جنيه، وأحيانا تصل إلى ١٥٠٠ جنيه، وبعدها تعتذر الجامعة عن عدم قبول الطالب، وتعتذر أيضا عن رد المبلغ المدفوع!
نفس الأمر يحدث فى أماكن كثيرة بعيدا عن الجامعات والمدارس، مثلا سبق وأن حدث ذلك فى إحدى الشركات الكبرى، التى أعلنت عن احتياجها لسائقى نقل ثقيل، فتقدم للشركة ٣٠٠٠ سائق، دفع كل واحد منهم ٥٠ جنيهًا ثمن استمارة الالتحاق بالعمل، وبعدها طلبت الشركة منهم ضرورة الحصول على دورة متقدمة فى الميكانيكا قبل الالتحاق بالعمل مقابل ١٥٠٠ جنيه لكل سائق، لمدة ثلاثة أشهر، فما كان منهم إلا تنفيذ هذه الشروط، وبعد ثلاثة أشهر فوجئ هؤلاء الغلابة بأن المطلوب للالتحاق بالعمل ٤٥ سائقًا فقط، أما باقى العدد فعليه أن يضرب رأسه فى «الحيط»، خاصة أن عددًا منهم ضرب رأسه فى الحيط ولم يتقدم للشركة بعد أن حصل على الدورة الأولى، عندما علم أن الشركة سوف تطلب منهم الحصول على دورة أخرى فى التأهيل النفسى مقابل ١٥٠٠ جنيه! فكم جمعت هذه الشركة أموالًا من مواطنين غلابة كان حلمهم تأمين مستقبلهم بالعمل فى شركة لها اسمها، وهل هذه الأموال التى تجمعها الشركة لها إطار قانونى؟ أم أنها تفعل ذلك دون أن تأخذ الدولة حقها فى هذه الإجراءات الإدارية؟
إن الجشع، وصيد المال السهل، ومص دم الغلابة، كان أقوى لدى المسئولين عن هذه الشركة وغيرها من الشركات والمصالح والهيئات من مراعاة أحلام الشباب وأملهم فى إيجاد فرص عمل يستطيعون من خلالها شق طريقهم فى الحياة الصعبة، فالقائمون على هذه الشركات عرفوا لعبة البيزنس الجشع، فيحصلون على أموال ضخمة من خلال هذه الاستمارات وتمتلئ خزائنهم بالمال الحرام، فى نفس الوقت الذى تتبخر فيه أحلام الغلابة فى الهواء، ولا أحد يحاسبهم أو يوقف هذه المهازل.
نحن نحتاج إلى إرادة قوية لمحاربة المتاجرين بأحلام الشباب، وتحويل هؤلاء الجشعين إلى المحكمة بالقانون، لردعهم والتخلص من أمثالهم. فبلادنا تحتاج إلى تكاتف الجميع من أجل المصلحة العامة، وليس المصالح الشخصية، التى قضت على الأخضر واليابس، وبلادنا محتاجة إلى مَن يطبّق القانون وبشدّة على كل مَن يستغل ويلعب على أحلام البسطاء، مصر تحتاج إلى الضرب بيد من حديد على أيدى هؤلاء السفهاء، الذين جمعوا أموالًا على حساب البسطاء والمهمشين.
ندعو الله أن يرحمنها من شر الجشعين، وأن يحمينا جميعًا من أمثالهم.