الجيزة.. صيف 1972
يجلس الرئيس السادات فى شرفه منزله بالجيزة، يشعل غليونه ويشرد فى حركة مياه النيل الهادئة المنسابة أمامه، بينما تتصارع برأسه الأفكار الساخنة والأخبار السيئة.
كانت مصر تعج بالشك والإحباط والترقب.. لا أحد يعلم كيف يمكن أن تخرج من حالة الانكسار العسكرى والانكشاف السياسى والأزمة الاقتصادية.
كتب السادات فى أوراقه التى نشرها أنيس منصور أن مصر بحسب تقارير سرية غربية أمامها سنتان وبعدهما تركع على ركبتيها تطلب الرغيف فتجده أو لا تجده!.. حاولت أن ادفع هذه الصورة المخيفة عن رأسى، وقلت: لعلها دعاية مغرضة.. أو لعلها سكين مسمومة أطلقها أعداء مصر لتصيبها فى الصميم!.. ولكنى أعلم علم اليقين أن المعدة بيت الداء -والمعدة هى الاقتصاد، وأن الاقتصاد هو المعدة وهو العمود الفقرى.. وأن الاقتصاد السليم هو الاستقلال التام.
ويستطرد: تعلق فى ذهنى عبارات حكيمة لأناس أدركوا حقيقة الإنسان والشعوب.. أذكر عبارة الفيلسوف الأمريكى فرانكلين التى تقول: إن الجوالات الفارغة لا تقف! والمعدة الخالية لا يقف صاحبها على قدميه، وكذلك الشعوب الجائعة.. وعبارة أخرى أوضح ولكنها أقسى تقول: إن الشعوب كالأفاعى تزحف على أحشائها! أى لابد لأحشائها أن تمتلئ حتى تصبح قادرة على الحركة! فليست الشعارات السياسية الفارغة هى التى تمتلئ بها معدات الأفراد والشعوب.
ثم ظهرت نغمة أخرى جديدة قبل دخول الجامعات والمدارس فى اكتوبر 1972 فقد صدرت التعليمات من الاتحاد السوفيتى بخلق القلق والقلاقل والتشكيك فى كل شيء.. هنا وهناك.. والصورة التى انتقلت إلى العالم الخارجى عن مصر تبعث على الذهول والإشفاق.. ولا يعرف أحد أين مصر وشعب مصر وقيادة مصر ومستقبلها من هذه الفوضى الفكرية والبلبلة والانهزامية وضياع كل شيء.
ويستكمل: وتولى إشعال الدخان فى مصر وخارجها فى بيروت وطرابلس وفى الصحف العالمية صحفيون مصريون.. شيوعيون وانهزاميون وحاقدون ومأجورون، وكنت أعلم فى صيف هذا العام أن تعليمات موسكو قد أرسلت إلى بيروت، ومن بيروت جاءت إلى مصر. والمطلوب هو: إثارة الفتن فى مصر من الداخل وتشويه وجه مصر فى الخارج.
وفى نفس الوقت تقوم فتنه طائفية أيضا.. وهذه فتنة تضيف إلى الصورة العامة لمصر تمزقا جديدا.. ومع بداية العام الدراسى سوف تكون المعانى وقودا للشباب ومبررا للخروج إلى الشوارع وإثارة الناس بعضهم على بعض وامتحان النظام القائم الذى يشاع فى كل مكان أنه منهار وأنه لاعلاج له.
وأمضيت وقتى مشغولا تماما بمواجهة الناس وتبديد الشائعات التى ملأوا بها مصر فى ذلك الوقت والتى تزداد أصداؤها وتتضخم فى كل البلاد.
فكيف نحارب إذن؟ هل أحارب فى الداخل وأرضنا محتلة.. وبذلك أحارب نفسى وعدوى أيضا؟.. إنه جنون مطلق.
ثم يعود ليحكى طريقته فى الحل ويقول "لكننى فى مثل هذه الأزمات أجد حاجتى للصبر أشد وأجد حاجتى للهدوء أكثر وأعمق فلابد أن أضع الأشياء أمامى بوضوح، وأضع المشكلة إلى جوار الأخرى وازنها بالعقل وأحسبها جيدا وأرتب الأزمات حسب أهميتها وحيويتها".
لم تكن الخبرة العسكرية وحدها التى تتحكم فى عقل الرئيس السادات، كان الرجل معجونا بالسياسة والثقافة والوعى التام بحركة العالم وتجارب التقدم المختلفة، ولذك فكر فى أحداث نقله للاقتصاد والمجتمع بقرارات العام 77 إلا أن "المنظرين" ، وأحزاب اليسار التى ركبت حركة الجماهير الرافضة تمكنت من تعطيلها طوال أربعين عاما بعدها.
تركيا فعلتها فى بداية عهد أردوغان وزادت عليها خصخصة كل شركات القطاع العام، ماليزيا، الهند إندونيسيا، دول عديده خرجت من عباءة الدعم، وحولت ملياراته إلى تحسين التعليم والصحة وصناعة نهضة اقتصادية حقيقة.. إنها قبلة الحياة لأى اقتصاد نامى فى العالم.
لكن يظل مدى تأثر الطبقة الوسطى والفقيرة بهذه القرارات هو الرقم الصعب، مع الوضع فى الحسبان ترقب جماعات الإرهاب والتطرف لأى حالة قلق وتوتر لاستغلالها فى العودة لاحتلال الشوارع وشل مصر وأدخالها عنوة فى النفق المظلم.. الخيارات الصعبة تبعث من جديد أمام الدولة.
ما أـشبه الليلة بالبارحة.
كانت مصر تعج بالشك والإحباط والترقب.. لا أحد يعلم كيف يمكن أن تخرج من حالة الانكسار العسكرى والانكشاف السياسى والأزمة الاقتصادية.
كتب السادات فى أوراقه التى نشرها أنيس منصور أن مصر بحسب تقارير سرية غربية أمامها سنتان وبعدهما تركع على ركبتيها تطلب الرغيف فتجده أو لا تجده!.. حاولت أن ادفع هذه الصورة المخيفة عن رأسى، وقلت: لعلها دعاية مغرضة.. أو لعلها سكين مسمومة أطلقها أعداء مصر لتصيبها فى الصميم!.. ولكنى أعلم علم اليقين أن المعدة بيت الداء -والمعدة هى الاقتصاد، وأن الاقتصاد هو المعدة وهو العمود الفقرى.. وأن الاقتصاد السليم هو الاستقلال التام.
ويستطرد: تعلق فى ذهنى عبارات حكيمة لأناس أدركوا حقيقة الإنسان والشعوب.. أذكر عبارة الفيلسوف الأمريكى فرانكلين التى تقول: إن الجوالات الفارغة لا تقف! والمعدة الخالية لا يقف صاحبها على قدميه، وكذلك الشعوب الجائعة.. وعبارة أخرى أوضح ولكنها أقسى تقول: إن الشعوب كالأفاعى تزحف على أحشائها! أى لابد لأحشائها أن تمتلئ حتى تصبح قادرة على الحركة! فليست الشعارات السياسية الفارغة هى التى تمتلئ بها معدات الأفراد والشعوب.
ثم ظهرت نغمة أخرى جديدة قبل دخول الجامعات والمدارس فى اكتوبر 1972 فقد صدرت التعليمات من الاتحاد السوفيتى بخلق القلق والقلاقل والتشكيك فى كل شيء.. هنا وهناك.. والصورة التى انتقلت إلى العالم الخارجى عن مصر تبعث على الذهول والإشفاق.. ولا يعرف أحد أين مصر وشعب مصر وقيادة مصر ومستقبلها من هذه الفوضى الفكرية والبلبلة والانهزامية وضياع كل شيء.
ويستكمل: وتولى إشعال الدخان فى مصر وخارجها فى بيروت وطرابلس وفى الصحف العالمية صحفيون مصريون.. شيوعيون وانهزاميون وحاقدون ومأجورون، وكنت أعلم فى صيف هذا العام أن تعليمات موسكو قد أرسلت إلى بيروت، ومن بيروت جاءت إلى مصر. والمطلوب هو: إثارة الفتن فى مصر من الداخل وتشويه وجه مصر فى الخارج.
وفى نفس الوقت تقوم فتنه طائفية أيضا.. وهذه فتنة تضيف إلى الصورة العامة لمصر تمزقا جديدا.. ومع بداية العام الدراسى سوف تكون المعانى وقودا للشباب ومبررا للخروج إلى الشوارع وإثارة الناس بعضهم على بعض وامتحان النظام القائم الذى يشاع فى كل مكان أنه منهار وأنه لاعلاج له.
وأمضيت وقتى مشغولا تماما بمواجهة الناس وتبديد الشائعات التى ملأوا بها مصر فى ذلك الوقت والتى تزداد أصداؤها وتتضخم فى كل البلاد.
فكيف نحارب إذن؟ هل أحارب فى الداخل وأرضنا محتلة.. وبذلك أحارب نفسى وعدوى أيضا؟.. إنه جنون مطلق.
ثم يعود ليحكى طريقته فى الحل ويقول "لكننى فى مثل هذه الأزمات أجد حاجتى للصبر أشد وأجد حاجتى للهدوء أكثر وأعمق فلابد أن أضع الأشياء أمامى بوضوح، وأضع المشكلة إلى جوار الأخرى وازنها بالعقل وأحسبها جيدا وأرتب الأزمات حسب أهميتها وحيويتها".
لم تكن الخبرة العسكرية وحدها التى تتحكم فى عقل الرئيس السادات، كان الرجل معجونا بالسياسة والثقافة والوعى التام بحركة العالم وتجارب التقدم المختلفة، ولذك فكر فى أحداث نقله للاقتصاد والمجتمع بقرارات العام 77 إلا أن "المنظرين" ، وأحزاب اليسار التى ركبت حركة الجماهير الرافضة تمكنت من تعطيلها طوال أربعين عاما بعدها.
تركيا فعلتها فى بداية عهد أردوغان وزادت عليها خصخصة كل شركات القطاع العام، ماليزيا، الهند إندونيسيا، دول عديده خرجت من عباءة الدعم، وحولت ملياراته إلى تحسين التعليم والصحة وصناعة نهضة اقتصادية حقيقة.. إنها قبلة الحياة لأى اقتصاد نامى فى العالم.
لكن يظل مدى تأثر الطبقة الوسطى والفقيرة بهذه القرارات هو الرقم الصعب، مع الوضع فى الحسبان ترقب جماعات الإرهاب والتطرف لأى حالة قلق وتوتر لاستغلالها فى العودة لاحتلال الشوارع وشل مصر وأدخالها عنوة فى النفق المظلم.. الخيارات الصعبة تبعث من جديد أمام الدولة.
ما أـشبه الليلة بالبارحة.