مَن يصدق أن فكرة البيروقراطية فى الأساس تتلخص فى سعى الدولة إلى إرساء منظومة تخلق الانضباط فى أروقة مؤسساتها الحكومية، وتضيق الخناق على أى خلل أو انحراف قد يحدث؟ فكلمة «بيروقراطية» معناها «سلطة المكتب» وقد انسحب هذا المفهوم على إيقاع العمل المؤسسى الذى تعتنقه الدولة فى مصر، فتحولت «البيروقراطية» من منظومة تعمل على حماية النظام الإدارى العام، إلى عائق يقوم بتوقيف وعرقلة وتعطيل هذا النظام!
والحقيقة أن «النظام البيروقراطى» ليس سيئا، فإذا ما طبّق بشكل عصرى وحيوى لحقق نجاحًا ملحوظًا، لكن فى ظل ترهل المؤسسات الحكومية، وضمور العقل الإدارى لدينا، تحولت البيروقراطية إلى كارثة، بعد أن خضعت الدولة لنظام إدارى ظهر عالميًا فى بدايات القرن الثامن عشر، فأصبحنا سجناء التوقيع والختم.
ففى الوقت الذى يتجه العالم فيه إلى الإمام بسرعة رهيبة، فى جميع المجالات، خاصة مجال التكنولوجيا، التى طوعوها من أجل جلب استثمارات بشكل مذهل. تجدنا نحن فى مصر ما زلنا محلك سر، لم نستفد من التقدم العلمى الذى غزا العالم، ما جعل المستثمر الأجنبى يهرب باستثماراته من مصر، من كثرة الإجراءات البيروقراطية.
فالتقدم الاقتصادى، والعلمى، والرياضى، يحتاج إلى القضاء على النظام البيروقراطى المتصلب، فلم يعد مطلب الشباك الواحد مقصورًا على الاستثمار الاقتصادى فحسب، بل أصبح مطلبًا حتميًا لكل المجالات الخدمية الحكومية، والبداية يمكن أن نطبقها فى وزارة التربية والتعليم، التى تهم المجتمع المصرى بأكمله، فالبيروقراطية داخل هذه الوزارة تسبب مشاكل ضخمة للأسر المصرية، نفسيًا واجتماعيًا.
مَن يتخيل أن طلب نقل طالب أو طالبة من مدرسة تابعة لإدارة تعليمية إلى إدارة تعليمية أخرى، فى نفس المحافظة، يحتاج لأكثر من عشرين توثيقًا، وأربعة أختام شعار الجمهورية، بالإضافة إلى أن كل هذه الطلبات والأختام تحتاج من صاحبها التواجد فى الإدارات التعليمية يوميًا، لمدة تزيد أحيانًا على الثلاثة أسابيع، والوقوف فى طوابير لإتمام الموافقة على النقل، مع تقديم مستخرجين رسميين لشهادة ميلاد الطالب «الموجودة أصلًا فى الملف!» وبيانات نجاح الطالب معتمدة من جميع المسئولين بالإدارة التعليمية ومديرية التعليم المختصة بتوقيعاتهم، وأختام شعار الجمهورية بعد كل توقيع، وتقديم أكثر من حوالة بريدية بمبالغ مالية وطوابع مهنية متعددة، نادرة الوجود بمكاتب البريد!
وفى الغالب يخضع لكل هذه الإجراءات ولى الأمر الذى هو فى الأصل كبير السن، فيتنقل بين الإدارات والمكاتب لدرجة أن بعض أولياء الأمور يقعون على الأرض من شدة الإعياء والتعب، لكن لا مجيب، فالبيروقراطية المصرية عمياء القلب والنظر يقودها موظفون، لا يرحمون شيخوخة كبار السن والعجائز.
جرّب مرة أن تسأل موظفًا عن كثرة الأختام والشعارات والطلبات التى تطلب ستجده يقول لك: «أنا عبد المأمور، وبنفذ التعليمات».
بعد كل هذه الدوخة، لك أن تتخيل الوضع المعقد الذى قد يقابله المواطن إذا ما كان النقل المرجو الموافقة عليه بين محافظتين، وليس فى نفس المحافظة! فقد يستغرق الأمر شهورًا، وقد يزداد عدد توقيعات المسئولين على الطلب إلى الضعف والأختام نفس الأمر، وهكذا يضيع وقت أولياء الأمور وجهدهم فى عملية نقل طالب من مكان لآخر كان يمكن تنفيذه فى ساعة واحدة.
هذا مثال حى على قهر البيروقراطية فى مصر، الأمر الذى عطلنا عشرات السنين عن التقدم، وجعل المستثمر الأجنبى يهرب من بلادنا، فما ينطبق على وزارة التربية والتعليم ينطبق على وزارة الاستثمار، ووزارة الصحة، وغيرهما من الوزارات والهيئات الحكومية، فالمريض فى مصر يمكن أن يقتله تصلب النظام البيروقراطى قبل أن يميته المرض! إن اقتصادنا تراجع، ليس لقلة فرص الاستثمار، بل بسبب منظومة البيروقراطية العفنة، رغم أن بلادنا بها فرص واعدة للاستثمار.
فى الحقيقة مصر تحتاج إلى ثورة حقيقية للقضاء على نظامنا الإدارى البيروقراطى، واتباع الأساليب الحديثة فى إعادة بناء الدولة.
إن الدول التى تقدمت اقتصاديًا، المستثمر الأجنبى فيها يحصل على كل طلباته فى أربعة أيام فقط، وهناك بع ض الدول قلصت هذه المدة فأصبحت تكتفى بيوم واحد لإنهاء جميع التراخيص للمستثمر الأجنبى، حتى تحقق له ما يريد، من أجل زيادة فرص الاستثمار لديها.
لقد أصبح العالم كله يتعامل من خلال شباك واحد، فى كل الهيئات والمصالح الحكومية، لتشجيع الأجانب على زيادة استثماراتهم. أما نحن، فالمواطن المصرى يصاب بالصدمة والرعب عندما تقترب رخصة سيارته على الانتهاء، شعور بالنسبة له مُرَ كالعلقم، فهو يعرف أن يوم تجديد الرخصة من أصعب أيام حياته، لذلك علينا تحطيم البيروقراطية، ولن نتقدم إلا إذا حطمنا هذا الصنم، وقضينا عليه نهائيًا، وحررنا اقتصادنا من عبودية «التوقيع» و«ختم النسر».