تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
المقصود بالنخبة هنا نخبة المثقفين ممن يفترض بهم أن يكونوا في طليعة عملية التحرر الفكري والمجتمعي، هذه النخبة التقدمية التي تفكر وُتحَّلق خارج إطار محيطها فتكون سباقة ومحلقة للأعلى للبعيد، متمنية لمجتمعها اللحاق بركب التقدم الذي تعيشه شعوب العالم المتقدم.
فهذه النخبة قد حسمت جدلية ما الذي يقود ويحمل المجتمع نحو التقدم أولا: هل هو التطور السياسي والسياسيين؟! أم الموارد والطفرة الاقتصادية؟! أم الفكر؟! لذا فالحديث هنا لا يتوجه إلى تلك النخبة التي لاتزال تناقش مثل هذه المعطيات وتحلل وتنظر فيها، إذ يرى البعض إن وجود حركة سياسية ديمقراطية تحررية يمكنها أن تحدث الطفرة الاقتصادية والتحرر الاجتماعي والمجتمعي معا، بينما يرى آخرون أن الطفرة الاقتصادية هي ما يمكنها أن تنتشل المجتمع من غياهب الجهل والتخلف، وهكذا تبقى جدلية هذا النقاش الذي قد يكون عقيما لو بقى في سراديب النقاش السفسطائي النظري العقيم، لكنه يمكن أن يكون منتجا ولو نسبيا إذا تحول إلى عمل يحاول فيه أصحاب كل نظرية التغيير وفق ما يرونه الأفضل، يبقى عملا محمودا على أي حال أفضل من أن تبقى تنظر ولا تفعل شيئا،
أما بالنسبة لي ونخبة ممن حولي فقد حسمنا أمرنا بأن الفكر ولا شيء غيره، الثورة الفكرية هي الأساس، وهي وحدها رأس حربة نقل المجتمعات نحو الحداثة والتطور، والأمثلة ُكثر للرد على ماسبق من معطيات ومن دول في حالة رخاء اقتصادي ووفرة لكن هذا لايمنع أنها مجتمعات متخلفة متأخرة عن ركب الكون في كافة القطاعات لا لشيء، سوى لسيطرة وشيوع أفكار بالية متهلهلة غيبية، وعلى الصعيد الآخر دول في العالم الثالث أيضا تشهد حركات ديمقراطية قوية لكنها فيما يتعلق بالانغماس في غياهب التخلف والجهل فحدث ولاحرج، مجتمعات مغيبة بالكامل.
ولنا أيضا أمثلة واضحة محددة استطاعت أن تحقق وتنتج، فنحن لانخترع العجلة، حركة التنوير في أوروبا ارتبطت فيها الثورة السياسية بالثورة الفكرية، بل سبقها تمهيد كبير لنظريات ومنظري الفكر التقدمي، ولولا ذلك لما تحقق شيء، بل ولا نبالغ إذا قلنا أن الثورة كانت فكرية بالأساس وهي ماحركت كل المياه الراكدة على صعيد الأنظمة السياسية والاقتصادية التي كانت حاكمة، لذا نفهم ونتفهم جيدا أن تتصدى الأنظمة الديكتاتورية وأي نظام سياسي لايثق في عدالته ونزاهته -ولو جاء عن طريق الصناديق، فليست العبرة بالصناديق ولا أدل من أن هتلر وموسوليني جاءوا عن طريق الصناديق، فماذا انتجوا؟!- ستتصدى هذه الأنظمة لأي حركة تنوير فكري وستتماهى مع ثقافة التخلف والغيبيات والخرافات والكهنوت ولو غيروا المسميات، سيبقى الكهنوت كهنوتا مهما حاولوا شرعنته وتجميله، وبالنسبة لهم فهذه وسيلة جيدة ومجربة لتغييب العقول واستلاب حرية الناس..
لكن أعود من حيث بدأت كل هذا مفهوم ومبرر وله أسانيده ومنطلقاته النفعية، تبقى المشكلة الحقيقية التي يواجهها كل تنويري صادق هي في دائرتنا الضيقة، في أصدقائنا الذين يتشاركون معنا هذه القناعات لكنهم لايتجرأون على الجهر بها، حتى وإن عاشوها في واقعهم بل يرتأون أن يتوسلوا رضى الدهماء والعامة بإظهار النموذج المثالي، لا كما يتسق مع قناعاتهم بل كما يريده هذا المجتمع لهم، ولو على حساب مبادئهم وقناعاتهم، وفئة أخرى مناقضة تتشبع بهذه الأفكار والقناعات وتؤمن بها لكنها لاتعيشها في واقعها ولا تربي أولادها عليها، بل تعيش وتتعايش وفق كل الأفكار المرضية التي تنقدها على طول الخط، ثم يجلس بين أولاده فينقل لهم ويحدثهم بكل الأفكار التي وجد عليها آباءه وأجدداه بكل فخر، وفئة ثالثة وهي الأقل ضررا والأكثر شيوعا ممن يقررون الانعزال في عالمهم وحدهم وليذهب المجتمع بتخلفه وكهنوته للجحيم،،
لا أريد أن أقسوا على أي من هذه الفئات فنتفهم الظروف والقيود المجتمعية وربما أكثر المفروضة عليهم، والتي هي كفيلة بتحويل أي فرد من هذا المجتمع إلى كائن شيزوفريني مرضي يتناقض طول الوقت مع ذاته ومع مجتمعه ومع العالم، أو تحوله لمنافق يعيش حياتين حياة في السر وحياة في العلن، الأمر ليس هينا سهلا بل هو صعب وصعب جدا ومعقد لكنه مطلوب.
لذا فالحديث هنا لا يتناول إلا الصادقين من الفئات التي اعتقدها مؤمنة لكنها تعاني، وهو حديث بعيد عن مدعي التنوير من الدجالين والمزايدين والنفعيين والاستعراضيين فهم ليسوا موضوع بحثنا ولا اهتمامنا من الأساس.
أصدقائي الأعزاء المؤمنين المقتنعين الصادقين هل تعلمون كم تخذلوننا وتخذلون القضية؟! المجتمعات لاتتقدم إلا بالطليعة بنا معا لانطالبكم بالحرب والمواجهة والتصدي فهذا خيار وقرار شخصي، لكن عيشوا قناعاتكم لاتتجملوا ولاتنافقوا ولا تتصنعوا،، عيشوا حياتكم بأعينكم وفق قناعاتكم لا بعيون ورؤى غيركم،، قيموا أنفسكم بفكركم لا من خلال عدسات غيركم.. وهذا يكفي.