ينتمى فيلم «اشتباك» بوضوح إلى السينما السياسية، على العكس من ادعاء مخرجه محمد دياب أنه ليس فيلماً سياسياً وإنما إنسانى، فالسينما السياسية كما تبلور مفهومها واستقر منذ السبعينيات، هى الأفلام التى تتناول قضايا سياسية لا يزال يعايشها أحد المجتمعات فى الواقع الحاضر.
والواضح الجلى فى فيلم «اشتباك» أنه يتناول ويناقش قضية سياسية مثارة، هى علاقة مجمل الشعب والمجتمع المصرى فى أعقاب ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣، بتنظيم سياسى هو جماعة الإخوان المسلمين، والتيار السياسى الأوسع الذى تنتمى إليه هذه الجماعة وهو تيار اليمين الرجعى الذى يعطى لنفسه غطاء أو ثوباً دينياً إسلامياً، لكنه يظل فى جوهره ومراميه أحد التيارات السياسية فى الواقع.
وهكذا فإن «اشتباك» الفيلم الروائى الطويل الثانى لمخرجه، والذى كتبه مع شقيقه خالد دياب، فيلم سياسى بكل معنى الكلمة، من دون تعارض بالطبع مع اعتباره فيلماً إنسانياً فى الوقت نفسه.. ولذلك فإننا نهتم برؤيته الفكرية السياسية بصورة خاصة، إلى جانب النظر فى كيف جسدها درامياً، وعلى أى نحو عبر عنها فنياً وحرفياً، ولا يسعنا ابتداء إلا التأكيد على تماسك الفيلم كنص وسرد سينمائى، وما يمكن أن نصفه بجاذبية روحه السينمائية، مع احتفاظ «اشتباك» (٩٧ دقيقة) بوحدة تتابع مشاهده وأحداثه كلها فى يوم واحد، بل وفى مكان واحد، يكاد لا تغادره كاميرا مصوره البارع أحمد جبر، وهو «عربة الترحيلات»: التى تقذف فيها الشرطة المصرية بعنف، بعدد من المواطنين من نوعيات واتجاهات سياسية شتى وبعضهم حتى لا يمنتمى إلى اتجاه ما.. إننا نرى داخل سيارة الشرطة هذه، ومن خلال نوافذها الحديدية كزنزانة، الواقع والشارع اللذين يريد أصحاب الفيلم أن نرى كليهما، وعلى النحو الذى يجسد ويؤكد الرؤية التى يؤمنون بها، بحركة الكاميرا المحمولة وزوايا التصوير والتكوين، وبالاقتصاد الشديد الحصيف المؤثر فى استخدام الموسيقى التصويرية (لخالد داغر) والاعتماد أكثر على المؤثرات الصوتية وأصوات حركة الواقع الحية، وبالاستناد إلى ممثلين موفقين مجيدين على الإجمال وإن تألقت بينهم وفى كل المشاهد بصورة خاصة الموهوبة الكبيرة نيللى كريم، التى تعيش الآن أرقى مراحل نضوجها.
أما الرؤية السياسية لصانع الفيلم، فمن حقه بالتأكيد التعبير عنها وتجسيدها بوضوح كامل، أياً كان اتفاقنا أو اختلافنا معها، ونحن جميعاً يجب أن تكون مهمتنا الأولى الدفاع وبإصرار عن هذا الحق لصانع الفيلم ولكل صناع الفنون فى التعبير عن أنفسهم بحرية تامة، وحتى قبل مهمة التقويم النقدى أو أى مهمة أو مهنة أخرى!.. لكن بالطبع بنفس القدر، فإن من حق المشاهد والناقد التعبير عن رؤية مختلفة مع التوجه العام للفيلم، ونحن لا نختلف فحسب بل نتناقض تماماً مع رؤية فيلم «اشتباك».. وأكثر من ذلك، فإننا نعتبر «اشتباك» فيلما مزيفا.. يدافع عن التخلف.. لماذا؟
أولاً: لقد أراد صناع «اشتباك»، ابتداء، (وبانتهاج للرمزية)، أن يقولوا: عربة الترحيلات هذه.. تضم كل شعب مصر، هى رمز لمصر على نحو من الأنحاء، هى الوطن المحاصر السجين الساعى إلى الانعتاق، والذى يضم مختلف الاتجاهات والمواطنين والطبقات والديانات.. ويؤكد الفيلم هكذا: أن ما تلى (٣٠ يونيو ٢٠١٣)، هو الانقسام وتفكك المجتمع.. المنذر بانهيار كبير لا يبقى ولا يذر، لو لم تتداركوا.
هذه هى مشكلة الفيلم وقضيته.. لكن فى هذا ذاته يقابلنا أول (تزييف) صنعه أو صاغه أصحاب الفيلم!.. فإن الجماهير العادية بل ومختلف التيارات، ما عدا «الإخوان»، لم تكن قط (فى تلك الفترة فى أعقاب ٣٠/٦/٢٠١٣)، طرفاً فى مظاهرات وحضور فى الشارع كما رأينا فى الفيلم، وإلى حد أن يزج بكل هؤلاء الذين يمثلون مجمل الشعب فى عربة واحدة.. وفيما عدا يوم (٢٦/٧/٢٠١٣)، الذى خرج فيه كثيرون من الشعب استجابة للدعوة إلى دعم مواجهة الإخوان (وما وصف: بالإرهاب والإرهاب المحتمل)، لم يكن للشعب المصرى أى وجود حقيقى فى الشارع ومظاهراته واحتجاجاته عقب الثورة فى ٣٠ يونيو... هذه (الرمزية) إذن، التى قصدها أصحاب فيلم «اشتباك».. لم تكن فى محلها، ونحن نعتقد أنهم استلهموا حادثة حقيقية مروعة، وقعت فى تلك الآونة، (بل وذكروها صراحة فى حوار الفيلم)، وهى اختناق (٣٧ من الإخوان، وهو رقم خطير) فى عربة ترحيلات، ألقت تجاههم الشرطة وهم فى ذلك الوضع البشع المهين: قنبلة غاز.. ما أدى إلى قتل الجميع.. لكن صناع فيلم «اشتباك»، تمادوا فى الاستلهام، وتخيلوا (أو أرادوا تعسفاً أن نرى!) أن كل الاتجاهات، بل كل مصر قد زج بها فى مثل هذه العربة.. وهو أمر كما نرى بالفعل غير حقيقى ومزيف، فليس هذا هو الحال فى مصر (وجوهره) فى تلك الفترة، على الإطلاق.
ثانياً: ماذا أيضاً؟!.. يدعو فيلم «اشتباك» عبر الدراما، ومخرجه وكاتبه عبر كل اللقاءات من «كان» إلى «القاهرة»، إلى رفض ما يسميانه (هيستيريا) المجتمع المصرى، من حيث ما يصفانه (بالانقسام/ والاستقطاب) منذ ٣٠ يونيو.. لكن ما هذا الانقسام منذ ذلك التاريخ؟.. إنهما يقصدان بالطبع رفض مجمل المجتمع والشعب ككل لجماعة الإخوان وما لف لفها.. هذا هو الانقسام المعنى هنا و«الاستقطاب»، وهذه هى «الهيستيريا» المقصودة!.
هل يدعو فيلم «اشتباك».. إلى التعايش مع «الإخوان»؟.. نعم: هو يدعو إلى ذلك.. فنسأله السؤال المهم هنا بل الأهم: لكن التعايش على أى أساس؟.. فلا يجيب الفيلم! هل تكفى هذه الدعوة هكذا للفيلم؟.. نقول: إنه بالطبع لا.. وبالقطع لا تكفي!.. لأن هذا القول للفيلم، يمكن اعتباره: نصف الحقيقة.. وكالمعتاد: فإن نصف الحقيقة ما هو إلا كذب كامل.. وتزييف وتضليل كامل!.. ثم هل الفيلم غير منحاز؟.. الواضح: أن صناعه يريدون أن يبدو الفيلم كذلك، ويرددون أنه «إنسانى» وأنهم «محايدون».. ويضعون فى العربة (التى تكاد تعنى على نحو أو آخر: مصر الحاضر).. كل النوعيات والاتجاهات، وبينهم الإخوان.. ويحاول الفيلم أن يظهر لنا أنه على الحياد، ومتعاطف إنسانياً تجاه الجميع، وأنه يدعونا إلى ذلك.. حسناً! لكننا.. وكذلك كل المجتمع المصرى إلا فيما ندر، لا ينظر إلى جماعة الإخوان ومجمل تيارها مثل هذه النظرة!.. والرؤية الحقيقية عند كاتب هذه السطور أمس واليوم، والتى تتأكد يوماً عن يوم لدى أكثرية فى هذا المجتمع، أن جماعة الإخوان وتيارها الوهابى.. هى جماعة وتيار ضاران بالوطن كل الإضرار!.. وببساطة.. لأنه تيار تمتزج لديه نزعتان كأشد ما يمكن أن يكون: نزعة (التخلف) المجتمعى الشامل وعلى صعيد كل مجال وميدان.. ونزعة (العنف) الضارى، الضار بلا عقل وبلا ضمير فى كل وأى اتجاه ومكان.. ولذلك أيضاً فقد قلنا، إن «اشتباك» فيلم (مزيف).. ويدافع عن (التخلف).. ولعل لحديثنا بقية.