لا يوجد عاقل فى الكون وليس فى هذا البلد فقط، يقبل تعذيب إنسان مسجون، مسلوب الإرادة، مكبل الحرية، مهما كانت بشاعة الجرم الذى ارتكبه، أو القضية التى يحاكم بسببها، فالتعذيب جريمة أخلاقية منبوذة فى الشرائع السماوية ومجرمة فى الدساتير والقوانين الوضعية، لكن فى المقابل، لا يوجد عاقل لديه قدر ولو ضئيل من الفطنة، أن يميل نحو تصديق مزاعم «محمد البلتاجى»، أمام المحكمة، وهى القصة التى نسجها خياله المريض عن، قيام اثنين من قيادات وزارة الداخلية بتعريته وتصويره وسبه بأقذع الألفاظ.
هذه الادعاءات تضاف إلى مسلسل الأكاذيب والافتراءات التى يطلقها الإخوان منذ نشأة تنظيمهم، فقناعاتى أن الجماعة أدمنت الكذب، إلى أن صار عقيدة راسخة فى منهجهم، يصبونه ليل نهار فى أوعية فارغة، خاوية، يطلق عليها مجازا، أدمغة، محشوة بكل ما لا يتسق مع العقل والمنطق.
على المستوى الشخصى، لم أتعجب من تخاريف البلتاجى، فمزاعمه بمثابة رسالة هدفها، تشويه صورة النظام، فضلا عن توفير مادة تنهل منها، الآلة الإعلامية الإخوانية لتعزف على أوتار التخاريف، التى يهذى بها السجين عن سجانه، فالجماعة دأبت على صناعة أبطال وهميين لإعداد كتب ومذكرات تتناول قصصا مثيرة وحكايات تقشعر لها الأبدان عن جرائم التعذيب الوهمية، ولا أستبعد أن يأتى يوم ونجد فى متن الروايات أن اللواء مجدى عبدالغفار وزير الداخلية، ذهب بنفسه إلى السجن للاستمتاع بتعذيب الأبطال المجاهدين من أجل الحرية والدين، وبقية المفردات التى تدغدغ مشاعر ذوى العقول الشائهة التائهة، كما أننى لا أستبعد إطلاقا، أن تتناول الروايات المنسوجة، أن الرئيس عبدالفتاح السيسى شخصيا، كان يطلب على مدار الساعة تقارير من أجهزة الأمن، تتضمن مشاهد التعذيب، للاطمئنان على تنفيذ تعليماته، إن لم يذكروا أنه ذهب بنفسه للتأكد من تعذيب البلتاجى وعصام سلطان.
المثير للدهشة أن بعض المحسوبين على النخبة، المثقفة زورا وبهتانا، تعاملوا مع مزاعم البلتاجى، على أنها حقائق دامغة لا تقبل الشك، فهى بالنسبة لهم ثابتة، بيقين قائلها وكأنه لا ينطق عن الهوى رغم أن هؤلاء يعلمون جيدا مدى المبالغات التى تهدف إلى الهروب من مواجهة الرأى العام بعد ارتكابهم للعديد من الجرائم ضد هذا الشعب.
قال البلتاجى أمام المحكمة، «تم استدعائى من زنزانتى مقيد اليدين والقدمين، دون أى مبرر، وقام اللواء محمد على مدير الإدارة العامة لمباحث السجون» بتصويرى بعد أن أجبرنى فى وجود اللواء حسن السوهاجى مدير مصلحة السجون، أن أضع وجهى فى الحائط كأسير حرب، كما أجبرنى على الجلوس فى وضع القرفصاء، ثم انهال على بالسباب والألفاظ البذيئة والنابية، وأجبرونى على خلع ملابس السجن وصورونى لإرغامى على التنازل عن البلاغ المقدم منى ضد القيادات الأمنية لاتهامهم بقتل نجلته «أسماء»، خلال فض اعتصام رابعة العدوية.
كان من السهل جدا الميل نحو تصديق رواية البلتاجى، لو أنه، اتهم ضباطا صغارا فى الرتب، أو بعض الأفراد التابعين لمصلحة السجون لكنه اتهم اثنين من كبار المسئولين فى المصلحة وكأن مسئولياتهما أصبحت تعذيب البلتاجى، فى تقديرى لم يكن اختيار تلك الشخصيات عبثيا، بل ادعاء متقن للاستفادة منه على المدى البعيد، كجزء من مسلسل الأساطيرالإخوانية حول تعذيبهم فى السجون وهذا ليس جديدا بالمرة، فالادعاءات متوارثة فى أدبياتهم، لترويج المظلومية واستدرار عطف البسطاء، وهذا السلوك مارسوه على مر العصور، باعتباره جزءا لا يتجزأ من عملية متواصلة لتزييف الحقائق بهدف إدانة أنظمة الحكم، فهل يمكن تصور ذهاب شخصيات بهذا الحجم داخل وزارة الداخلية إلى السجن لممارسة هذه الأفعال؟
أكرر أننى لم أتعجب من سرد هذه الروايات العبثية، فقد سبق البلتاجى إلى نفس الطريق، شخصية إخوانية ذائعة الصيت هى زينب الغزالى التى روت قصصا لو كانت حقيقية لشابت لهولها الولدان، فخيالها المريض ذهب بها إلى ترتيب قصص وروايات تفوق القدرة على التصور، زعمت أن جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر أشرفا على تعذيبها، وأنها تعرضت للشتائم والإهانات من شمس بدران وزير الحربية وصلاح نصر مدير المخابرات العامة وأن صفوت الروبى كان يلهب ظهرها بالسوط، حيث كان يسوقها ثلاثة أنفار غلاظ تغلفهم ظلمة عرفت فيما بعد أن أحدهم كان صفوت الروبى الجلاد الذى وصفته بـ«الفاجر»، قالت: «ضربنى على أذنى بيده الغليظة القاسية فأخذت أذنى تصفر وتزوغ عينى كذلك.. وأدخلت ساحة تعذيب أشد قسوة من الساحة الأولى.. وكانت أذنى هدأت بعض الشيء وكذلك عينى وبعد فترة أدخلت إلى حجرة لا أدرى كم كلبا كان بها، عشرة كلاب أو خمسة عشر المهم أنها مملوءة بالكلاب المتوحشة وأغمضت عينى حتى لا أفزع، فأوقدوا نورا قويا شديد التوهج يغشى وأغلق علىَّ الباب من الثالثة حتى الثامنة وأنا أغمض عينى واضعة يدى تحت إبطى»، والكلاب تنهشنى من أخمص قدمى إلى قمة رأسى»، كما روت أساطير عن جهادها المفضوح، قالت: «غربت الشمس، فنشط جلادو السجن الحربى وزبانيته، وبدأت عجلة التعذيب تدور أخذونى فى ستر الليل، إلى زنزانة الماء.. كانت أمعائى تصرخ من الجوع وحلقى يكاد يتشقق من العطش، وآلام جراحى تضرب كل جزء من جسمى بعنف وشراسة، وأخذتنى سنة من النوم، وأنا على هذه الحال، فإذا بخلق جميل، يرتدون حللا من الحرير، مزركشة، داخل مخملات مطرزة بالذهب، ويحملون صحافا من الذهب والفضة عليها ما طاب من الأطعمة من لحوم وفاكهة لم أر مثيلا له، فأخذت آكل من هذه، وتلك، واستيقظت من سنة النوم هذه، فوجدت نفسى فى شبع ورى، فلا جوع، ولا عطش، ثم دخل صفوت الروبى وأطلق سبابه الصارخ: عبدالناصر أرسل فى طلب شياطين من النوبة سينهشونك نهشا.. إلى أين تفرين منهم؟».
كما تضمنت الادعاءات التى لا يصدقها سوى المغيبين ممن فقدوا القدرة على الفهم، أن «جنود الطاغية قرأوا عليها رسالة خاصة من رئيس الجمهورية «جمال عبدالناصر» ينص فيها «أن تعذب زينب الغزالى فوق تعذيب الرجال».
وهنا أتساءل من هى زينب الغزالى حتى تهتز مؤسسات الدولة إلى الحد الذى تتدخل فيه المخابرات العامة فى شأن ليس من اختصاصاتها؟؟.
أى عقل يصدق هذه الأكاذيب، فهى تريد أن تقول إن عبدالناصر وعبدالحكيم عامر وصلاح نصر وشمس بدران، تركوا شئون الدولة بكل ما فيها من أزمات، وتفرغوا للفرجة على تعذيب الحاجة زينب والآن يريد البلتاجى أن يصبح شهيدا فى عيون المغيبين.