أيًا كانت صحة وجهات النظر المحتدمة على الساحة السياسية بين بعض المفكرين والسياسيين والاستراتيجيين، على أن الديموقراطية كانت هى الفريضة الغائبة فى النظرية والتطبيق للدولة الاشتراكية الرئيسية، مما أدى إلى انهيارها وهى التى كانت تسمى الاتحاد السوفيتى. وكان الرئيس السوفيتى جورباتشوف عام ١٩٨٨ يعترف بهذه الحقيقة. فهو يذهب إلى أنه فى أواخر الثلاثينيات وقبل نشوب الحرب العالمية الثانية، كان الاتحاد السوفيتى قد أنجز ثلاث خطط خمسية، وأن هذه الخطط الثلاث الأولى كانت قد غيرت البناء الاجتماعى ـ الاقتصادي السوفيتى من بناء زراعى طبقى متخلف إلى بناء صناعى لا طبقى متقدم. فقد تطور نصيب الإنتاج الصناعى فى الدخل القومى من أقل من عشرة فى المائة إلى أكثر من خمسة وخمسين فى المائة، وقضى على الأمية تمامًا، وتصاعد حجم فئة ذوى التعليم المتوسط والعالى حوالى عشر مرات. وبالتالى كان المجتمع السوفيتى قد أصبح مؤهلًا لممارسة الديمقراطية وهو يسير إلى التطور الطبيعى للمجتمع السوفيتى نحو الديمقراطية. ولكن الذى حدث أن تم حبس وإجهاض قضية الديمقراطية بسبب عاملين، الأول: هو النزاعات الاستبدادية التسلطية لجوزيف ستالين، الزعيم السوفيتى آنذاك. الثانى: هو التحرش المستمر للدول الرأسمالية الغربية بالاتحاد السوفيتى وخاصة من ألمانيا النازية، التى غزت أراضيه فعليًا فى الحرب العالمية الثانية. ثم استمرار هذا الاحتكاك أو التحرش بعد الحرب العالمية الثانية، ببداية الحرب الباردة التى قادتها الولايات المتحدة الأمريكية وحاصرت فيها الاتحاد السوفيتى بشبكة من الأحلاف العسكرية العدائية مثل حلف الأطلنطى، وحلف جنوب شرق آسيا، وحلف بغداد. وما أود أن أصل إليه هو حقيقة واضحة مفادها أن أى نظام اجتماعى سياسى لا بد أن يواجه طريقًا مسدودًا إن هو أهمل أو تباطأ وتلكأ فى إحدي قضيتين رئيسيتين ـ وهما قضية العدالة الاجتماعية وقضية الديمقراطية. فالنظم الرأسمالية فى الغرب اهتمت أساسًا بقضية الديموقراطية وأهملت قضية العدالة الاجتماعية طوال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. وأدى ذلك بها إلى سلسلة من الأزمات الخانقة وأغلقت العديد من البنوك والشركات العملاقة والمصانع الكبرى، وانتشرت البطالة إلى أكثر من أربعين فى المائة فى معظم الدول الرأسمالية الغربية فى نفس الوقت كان الاقتصاد السوفيتى فى أزهى حالاته واختفت منه البطالة. واضطرت أكبر البلدان الرأسمالية أن تعيد النظر فى أساسيات النظام الرأسمالي، وأن تدخل عليها ما يمكن هذا النظام من الصمود وتحاشى مثل هذه الأزمات الخانقة. وأدرك الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت أن الفريضة الغائبة فى النظام الرأسمالي التقليدي هى ضمانات العدالة الاجتماعية والتكافل الاجتماعى . وتقدم الرجل للناخبين الأمريكيين بحزمة من المقترحات الثورية التى جعلت الدولة مسئولة عن تأمين العمل والعلاج والمعاشات وإعانات البطالة لكل الأمريكيين، حتى لو اقتضى ذلك خلق قطاع عام اقتصادي حكومي لتشغيل العاطلين عن العمل. وسميت حزمة الاقتراحات والبرامج هذه بالعهد الجديد أو الصفقة الجديدة أو التعاقد الجديد، واتهم روزفلت فى ذلك الوقت من خصومه السياسيين بأنه شيوعي. ولكن الرجل لم يأبه بهذه الاتهامات ومضى يدعو إلى برامجه إلى الشعب الأمريكي، وأيده الناخبون الأمريكيون بالفعل وجعلوه رئيسا لهم. وبدأ فى تنفيذ برنامجه وظهرت ثماره المبكرة خلال السنوات الأولى فأعادوا انتخابه ثلاث مرات، وهو الأمر الذى لم يحدث من قبل. وبعد وفاته خلال الرئاسة الرابعة ١٩٤٤ أدخل الكونجرس الأمريكي تعديلًا على الدستور يمنع أى أمريكي من تولى الرئاسة أكثر من مرتين متتاليتين.
والذى نود أن نوضحه هو تأكيد مقولة الطريق المسدود لأى نظام يهمل إحدي دعامتين بالتطور والاستقرار فى المجتمعات المعاصرة، وهما التنمية الاقتصادية الاجتماعية وقوامها العدالة الاجتماعية والديموقراطية. فالذى يبدأ بالديموقراطية وحدها دون العدالة الاجتماعية فمهما حقق من منجزات لا بد أن يصل إلى طريق مسدود. طال الزمن أو قصر، وهذا ما حدث فى الولايات المتحدة وغيرها من البلدان الرأسمالية فى الثلاثينيات وحقب أخرى. والذى يبدأ بالعدالة الاجتماعية وحدها دون الديموقراطية ومهما حقق من منجزات لا بد أن يصل إلى طريق مسدود، طال الزمن أو قصر. وهذا ما حدث فى الاتحاد السوفيتى وغيره من البلدان الاشتراكية منذ الستينيات. وهنا ينبغى أن نكون واضحين. فلسنا نعتقد أن باستطاعة البلدان النامية ومصر والدول العربية خليجية وغير خليجية، أن تكرر تجربة النمو الرأسمالى أو الاشتراكى التاريخية. فالتاريخ لا يعيد نفسه، بل نحن نبدأ من حقيقة معينة فى استحالة تكرار النمو الرأسمالى، حتى لو أردنا ذلك. إن النمط التاريخى للنمو الرأسمالى بما ينطوى عليه من الاعتماد المطلق على دور الملكية الخاصة لكل وسائل الإنتاج، وترك عملية تخصيص الموارد تجرى من خلال آليات السوق والسعى إلى تعظيم الربح كمحرك وحيد للتقدم. هذا النمط لا يمكن أن يتكرر فى مصر والدول العربية النامية، صحيح أن هذه البلدان تطرح على نفسها مهام إنجاز ما يعتبر جوهر ما جرى تاريخيًا فى عملية النمو الرأسمالى. غير أنها إنما تطرحها فى إطار تاريخى جديد، هو أكثر مواتاة لها من ناحيتين، الأولى: اختلاف الاقتصاد العالمى والبيئة السياسية والأمنية اليوم اختلافًا كيفيًا عن العالم الذى شهد النمو الرأسمالي التقليدى الجامد، بحيث أصبحت فكرة الرأسمالية الاجتماعية أو اقتصاد السوق الاجتماعية الآن الذى يكون للدولة فيه دور مهم فى الرقابة والتوجيه وتصحيح الأخطاء، ومنع الاحتكارات ومراقبة السوق وأسعار السلع والخدمات، هو أسلوب التنمية المطروح بإلحاح متزايد على كل المجتمعات النامية والرأسمالية نفسها، وهو ما قامت به مؤخرًا ألمانيا وبريطانيا على سبيل المثال من امتلاك والتدخل والرقابة على بعض البنوك والمصانع العملاقة، وأما الناحية الثانية فهى اختلاف الاقتصاد النامى أو المتخلف اليوم اختلافًا كيفيًا عن الاقتصاد الذى شهد النشأة التاريخية للرأسمالية. بحيث أصبح من الصعب تمامًا الاعتماد على تنمية الأشكال الدونية للرأسمالية المحرومة الآن من آفاق التقدم التقليدية. وإكراه الطبقات العاملة على القبول بالاستغلال البالغ القسوة الذى اصطحب به النمو الرأسمالى. من هنا تعقدت الأوضاع أمامنا، وهى أوضاع معقدة فى الأصل بالترتيبات المعقدة والمتنوعة الباقية حتى الآن داخل هياكلها الاقتصادية والاجتماعية. وتعقدت بالتالى عملية التنمية الاقتصادية إلى الحد الذى صارت مصر وغيرها من البلدان النامية تجد نفسها أمام هذا التناقض. إنها لا تستطيع بعد أن تتجنب مهام النمو الذى حققته الرأسمالية تاريخيًا ، لكنها فى الوقت نفسه لا تستطيع أن تكرر مسار هذا النمو الرأسمالى. لهذا فإن كل ما هو مطروح على مصر والدول النامية والدول العربية فى القلب منها هو أن تسعى للنمو المعجل. أى أن تسعى لتكثيف النمو فى فترة زمنية مختصرة . وهذا الأمر هو تطبيق لفكر وفلسفة الرئيس عبدالفتاح السيسى الذى يقول ويكرر «إننا لا نملك رفاهية الوقت»، ولعل إنجاز مشروع قناة السويس الجديدة فى سنة واحدة بدلًا من خمس سنوات وهى الفترة التى طرحتها الدراسات، خير بديل على إيمان الرئيس بفلسفة النمو المعجل . وهذا هو معنى قولنا إن مصر تواجه مهام إنجاز جوهر عملية النمو الرأسمالى التاريخية، من غير أن تلتزم تاريخيًا بانتهاج الطريق الرأسمالي التقليدى نفسه. إن عملية زيادة إنتاجية العمل البشرى وانعكاسها على أسلوب استخدام وتوزيع الناتج الاجتماعى أى العدالة الاجتماعية هى جوهر عملية التقدم الذى أحرزته المجتمعات البشرية. ففيها يكمن النمو، وحين يتحقق الاستقرار والتنمية والعدالة الاجتماعية يتطلع المجتمع إلى الديموقراطية. فهى خطوات مترتبة بعضها على بعض، وفى نفس الوقت متداخلة ومتفاعلة ومتقاطعة. فالمجتمعات كلها متقدمة أو نامية لا تتوقف عن الحركة والنمو حتى وهى متخلفة، كل ما هنالك أن المجتمعات المتخلفة قد أصيب نموها بالتشويه، ولذلك فهى حين تبدأ تنميتها الاقتصادية الآن فإنها تبدأها من أرضية موضوعية تختلف تمامًا عن الأرضية التى نمت منها المجتمعات الأخرى المتقدمة.