الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

شتاء مسيحي في زمن الربيع العربي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لبنان.. مؤتمر مسيحيي المشرق (2)
لم يكن المؤتمر تجمعًا أو تكتلاً ضد أحد، لكنه كان محاولة للمكاشفة والمصارحة حتى ينتبه سكان هذه البقعة من كوكب الأرض إلى المخاطر المحدقة بهم، والتي قد تحولهم إلى محمية متحجرة خارج الزمن والتاريخ، وهم يعيدون إنتاج نفس أنساق حياة الغرب في عصوره الوسطى المظلمة، دون أن يسمحوا برياح التنوير أو أشعة شمس العقلانية والعلم -خارج الإجازات العلمية القشرية- أن تجدد هواء المنطقة وتنفض غبار التطرف والإقصاء.
وكشفت الأطروحات عن أنين مشترك يحمله مسيحيو المشرق يمتد إلى ظلامية الغزو العثماني (1517-1805) التي يسعى البعض إلى ابتعاثه مجددا وكأنه حلم حياتهم، ويمارسون ضدهم في سبيل ذلك كل ألوان التضييق والملاحقة بالتحالف مع الأنظمة الاستبدادية التي تمسك بمقاليد الحكم في غالب بلاد المنطقة مع اختلاف مسمياتها، كان على رأسها سعي إعادة رسم الخريطة الديموجرافية ترهيبا وترغيبا حتى يتخلصوا ممن يرونهم خارج الملة والدين، وكان لهم في الكيان الصهيوني أسوة ومثال ونموذج، ولم تكن أصابع الأجهزة الاستخباراتية الاستعمارية بعيدة عن مطابخ هذه الجماعات خارج السلطة وفوقها، لذلك كان هذا المحور هو الأول في جلسات المؤتمر.
كان الأنين العراقي داميا فقد شهد موجات من تهجير مسيحييه إلى خارجه أو إلى داخله لخلخلة تكتلاتهم وتذويبهم بين القبائل، وقد أسفرت عن تقلص الوجود المسيحي بها إلى نحو نصف مليون مواطن، ويتوقع المتابعون أن يندثر وجودهم في أقل من خمس سنوات لو استمرت موجات الإخلاء على ما هي عليه، وفي سوريا يدفع المسيحيون فاتورة الصراع بين التيارات الراديكالية الإسلامية والنظام، إلى درجة اختطاف اثنين من الأساقفة (المطرانين يوحنا إبراهيم وبولص اليازجي) وهما في طريقهما للتفاوض لإطلاق سراح بعض من رعيتهما، بعد أن تحولت سوريا إلى ساحة للحرب بالوكالة بتحالف أنظمة عربية مع الولايات المتحدة لخلق منطقة عازلة لمنع المد الإيراني (الشيعي) للمنطقة العربية السنية، وشهد المؤتمر حضور ومشاركة الأديبة السورية كوليت خوري (80 سنة) والتي كشفت عن التعتيم الإعلامي على موقف غالبية السوريين الرافضين للانقلابيين الراديكاليين المتشابكين مع تنظيم الإخوان الدولي ويعملون لحسابه.
كان الطرح المصري في هذا المحور مختلفا، ربما لأن الوجود المسيحي المصري (القبطي) له سمات وطبيعة مختلفة، فالهجرة ليست في مقدمة خيارات المصري على اختلاف ديانته والقبطي على وجه الخصوص، فتاريخه وتراثه مختلط بتاريخ وتراث الوطن، وفي الفلكلور الشعبي تعد الهجرة “,”عيبا“,” سجله في أدبياته وفنونه، ولعلنا ما زلنا نذكر الأوبريت الإذاعي الشهير “,”عواد باع أرضه“,”، وفي المجال القبطي تختلف المذاهب وتتوزع على الكنائس الكبرى الأرثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية (الإنجيلية)، لكنها تتمسك بكونها في ثلاثتها بأنها قبطية، وهو موقف وطني بامتياز، والتفاعل القبطي/المصري تجاوز الشكل الاحتفالي، فقد ترجم في سلسلة من الفعل الخدمي التنويري منذ بواكير القرن التاسع عشر لم يختلف فيه دور الكنيسة القبطية التاريخية (الأرثوذكسية) أو الكنائس الشقيقة التي تمصرت وصارت جزءا من المكون القبطي، في هذا الشأن، فمع تأسيس منظومة المدارس والمستشفيات والجمعيات الخيرية الإرسالية كانت مثيلتها المحلية تتأسس برؤية مستنيرة للبطريرك المصري البابا كيرلس الرابع الذي استحق أن يلقب بأبي الإصلاح، وقد افتتح سلسلة من المدارس المتنوعة في إحياء العاصمة الشعبية تفتح أبوابها لكل المصريين، بل ويمتد ببصره إلى المستقبل فيؤسس مدرسة الأقباط الصناعية في حي بولاق العتيق ويستقدم مطبعة تعد الثانية بعد المطابع الأميرية (نسبة للأمير الحاكم الذي استقدمها) ويفتتح مدارس للبنات مستبقا حركة تحرير المرأة التي قادها قاسم أمين، فضلاً عن سلسلة المستشفيات القبطية “,”القبطي والتوفيق ودار الشفاء والإيمان وغيرها“,”، والتي كانت فعلاً شعبيا من الجمعيات الأهلية القبطية، وبالتوازي كانت هناك مدارس “,”الدي لا سال“,” والقلب المقدس وكلية رمسيس كولدج والعائلة المقدسة والفرنسسكان والكلية الأمريكية وغيرها، وكان لها دور فاعل في خلق مناخ اندماجي شكل حائط صد منيعا في مواجهة محاولات كسر وحدة المصريين، وكانت قاعدة المصريين المدافعين عن النسيج المصري قوامها خريجو هذه المدارس من المصريين المسلمين.
صحيح أن غالبية هذه الصروح تعرضت للعصف جراء التوجه الاشتراكي في الستينيات من القرن المنصرم حين طالتها يد الوصاية والمصادرة الحكومية، إلا أنها تجارب تحتاج إلى إعادة بعث لما تملكه من قيم وضوابط قدمت منتجا تعليميا متميزا يحتل المقاعد الأمامية في دولاب العمل والاقتصاد ودوائر الاستثمار، الأركان الأساسية لتقدم الوطن.
والتجربة المصرية القبطية عصية على التفريغ، فما زالت تمثل الكتلة الأكبر لمسيحيي المشرق، وتتراوح بين 12 و15 مليون مواطن مصري مسيحي، وتتميز بتوزعها بين ربوع الوطن واندماجها الشعبي في العادات والتقاليد المصرية، وكان الأقباط الرقم الحاضر في الفعل الوطني في حراك الطليعة المصرية في صنع ثورة 19، وفي دعم 52، وكانت شريكا أساسيا في تكلفة الدم في يونيو 67 وفي اقتسام فرحة نصر أكتوبر 73، وتحملت إرهاصات انتفاضة يناير2011 مبكرا في ثلاث محطات، نجع حمادي يناير 2010، والعمرانية نوفمبر 2010 والتي يعتبرها البعض بروفة جنرال في المواجهة بين مواطنين عزل وترسانة الأمن والتي أكدت إمكانية انتصار الإرادة الشعبية على الحكم السلطوي، ثم حادثة القديسين فجر العام الجديد يناير 2011، والتي كانت إيذانا بخروج شباب الأقباط للاشتباك الإيجابي مع هموم الوطن.
القراءة الواقعية للتجربة القبطية بعد انتفاضات وانتكاسات يناير وما بعدها تكشف عن مخاطر حقيقية لم تنته بخروج الإخوان -المرحلي- من المشهد بعد ثورة يونيو 2013، فلم يتوقف استهداف الأقباط بل شهد تصعيدا داميا، عقب فض تجمعي رابعة والنهضة 14 أغسطس 2013 بحرق وتخريب ما يزيد على الثمانين كنيسة ومنشأة خدمية قبطية في ربوع مصر، ويشهد أيضا تراجعا عن خارطة الاندماج الوطني تبدى في الموقف من إعادة إعمار ما تم تخريبه على أرضية طائفية فما زلنا نترنح بين الوعود والنكوص حتى يجدوا مخرجا فقهيا يبيح إعمار دور الكفر بحسب ما يروج له من يعدون أنفسهم لوراثة الإخوان، وقد امتد نفوذهم إلى تعويق ذهاب الدستور إلى تأكيد مدنية الدولة.
وتكشف القراءة للتجربة القبطية أن ما يتهددها ليس الهجرة الطوعية إنما موجات التهجير والنزوح، خصوصا في محافظات الجنوب، والتي يقف وراءها رؤى طائفية سافرة، مع تراخٍ حكومي من أجهزة الإدارة، ونخشى أن يكون خلف الأكمة ما يتجاوز البعد الطائفي.
لذلك فما يعيشه الأقباط في لحظة مرتبكة وغائمة هو شتاء مسيحي لا ربيع عربي، ويحتاج إلى قراءة أمينة وموضوعية تؤمن بأن اختفاء المسيحيين يعني الإيذان ليس فقط بتغيير ديمجرافية الوطن ولكن باندثاره، لذلك كانت توصية المداخلة المصرية في المؤتمر في هذا المحور:
- العمل على اختراق سياجات العزلة بمد يد التنوير للمجتمع من قبل فعاليات الأقباط المجتمعية، منظمات وجمعيات، بإعادة إنشاء المدارس القبطية بما تملكه من منظومة قيم وانضباط مهني يعيد الاعتبار إلى المنتج التعليمي وللقيم المصرية.
- تأسيس منابر للتنوير في القرى والنجوع والعشوائيات تقدم وتوفر بالتوافق مع رجال الأعمال والمصانع فرص عمل وحدا أدنى من الحياة الإنسانية لكل المصريين من الطبقات الدنيا والفقراء، بالتوازي مع ترويج القيم المصرية الأصيلة السياج الواقي للاندماج الوطني.
- إعادة هيكلة المنظومة التعليمية الكنسية وتطعيمها بدروس في تفعيل المشاركة العامة والخروج إلى الآخر كفعل إيماني يترجم في عمل إيجابي، يدعم الاصطفاف الوطني في مواجهة الاصطفاف الطائفي الذي يدعمه ورثة النظام السابق من فصائل التنظيمات الراديكالية القادمين من الثمانينيات من القرن المنصرم مسلحين بترسانة موروث متراجع مفارق لحركة التاريخ.
وتحضرني هنا مقولة للمؤرخ أرنولد تونبي “,”إن مستقبل الأمة مرتهن بقدرتها على مواجهة التحديات“,”.