الإثنين 20 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

قادرون على تغيير العالم

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
حَكَى فى سيرته الذاتية قصصًا مدهشةً جدًا، ترجمت إلى العربية، بعنوان «خارج المكان» منها: (وَضْع هذا الطابور الطويل من «الباسبورات» أثناء سفر أسرته، والتى يحمل كل أفرادها جوازات سفر أمريكية، ما عدا الأم، التى تحمل جوازًا فلسطينيًا؛ مما تسبب فى مشكلة دائمة، تتعلق بسفرها إلى الخارج، لذا كانت علاقته بأمه علاقة خاصة جدًا؛ لأنها - فيما بعد - كانت الجذر الذى يربطه بالأرض والثقافة العربية والتراث العربى).
قال له «رئيس جامعة كولومبيا» : (أصبحت من مقدرات التراث العالمى الذى يعتز به العالم بأسره)، كما كُتِب عنه فى العديد من الكتب والأبحاث الأكاديمية، منها كتاب «أندرو روبن» الذى قال فيه: (إن فكره المتميز جعله يقف فى مصاف كبار المفكرين أمثال «ساونز» و«سيمون دى بوفوار» و«فرانك فانون» و«نعوم تشومسكى» وغيرهم. إن إيمانه بنفسه، والتزاماته المخلصة نحو شعبه، وعلمه، ومواهبه، جعلته أهم مفكر - بدون منازع - فى النصف الثانى من القرن العشرين، فهو يقدم لنا فكرًا جديدًا، لا ليساعدنا على تفسير العالم فحسب، بل ليجعلنا قادرين على تغييره). 
قدم أيضًا صفوة المفكرين فى كل العالم شهادات مبهرة عنه عديدة، منها قول - أستاذ النقد والأدب الإنجليزى بجامعة أكسفورد «جون بيلى»: (لقد اخترع لغة إنجليزية جديدة)، كما ذكر - أستاذ كرسى الدراسات الأدبية بجامعة چنيف - «جورج اشتاينر»: (هو نص مفتوح على العالم)، وقد ورد هذا فى رده على تلفيق قدمه باحث إسرائيلى مأجور عنه، ينكر هوية صباه الفلسطينية، أما الكاتب المرموق «هتشن» فأضاف قائلاً: (إن قراءتنا لكتاباته، تجعلنا نقرأ العالم العربى بدون تشويه أو تزييف). 
وفى تعليق على آخر كتاب ظهر له، يقول «سيموس دين»: (إن كتابه «تأملات من المنفى» جسَّد حياة المُفكر فى الوقت الحاضر). 
إنه المقيم «بين ثقافتين» كما عبَّر هو عن نفسه فى مقال له - البرفسور والمفكر - الفلسطينى الأمريكى الراحل «إدوارد سعيد»، وهو أستاذ الأدب الإنجليزى والأدب المقارن فى جامعة كولومبيا، وناقد الموسيقى البارز على صفحات أرفع المجلات الثقافية الأمريكية، وعازف البيانو الهاوى، والمدافع الصلب عن قضية الفلسطينيين وحقوقهم على صفحات الصحف وشاشات المحطات التليفزيونية الكبرى.
ولد بالقدس أول نوفمبر عام ١٩٣٥، وتلقى تعليمه فى فترة حياته الأولى فى مدرسة «ڤيكتوريا كولدچ» بالإسكندرية، وكانت من أهم المدارس الخاصة فى الأربعينات، التى تقدم لها أبناء الأغنياء - غير المصريين - أمثال «الملك حسين» و«يوسف شاهين» و«عمر الشريف»، والمصريون من أبناء الباشوات والطبقة الأروستقراطية، أمثال الدكتور «مجدى وهبة» وهو ابن «وهبة باشا» أستاذ الأدب الإنجليزى فى جامعة القاهرة.
أرسله والده إلى أمريكا، ليدرس فى أهم جامعتين، وهما «برنستن» وحصل منها على الليسانس، و«هارڤارد» وحصل منها على الدكتوراه عام ١٩٦٦، لذا تكون على المستوى الدراسى فى قلب المؤسسة التعليمية الغربية، لأن أسرته غادرت القدس بعد نكبة فلسطين، وانتقلت إلى مصر، التى كانت تتوجه إلى هذا الفكر المتقدم المتحرر المفتوح على العالم فى هذه الآونة.
استمر يعمل فى ميدان الأدب الانجليزى، الذى تخصص فيه، وظل لا يتكلم، ولا يقرأ، ولا يكتب اللغة العربية، لمدة طويلةٍ جدًا، لكنه فى المقابل استطاع أن يكوّن لنفسه مكانة مرموقة فى مجال الأدب الإنجليزى، تحديدًا منذ أطروحته المهمة للدكتوراه عن الكاتب الإنجليزى «چوزيف كونراد»، وهو من أصول بولندية، والتى نُشِرَت فى كتاب مهم سنة ١٩٦٦. 
هو نموذج فريد بلا شك لتمازج الهُوِيَّات المختلفة، للوصول إلى هُوِيَّة مُهَجَّنَة، لا تعترف بالحدود الضَّيِّقَة، التى تفصل بسيف بتَّار بين البشر جميعًا، على أساس من العرق، أو اللون، أو الدين، أو الثقافة، أو الأيديولوچيا.
هو أيضًا نموذج مبدع وخلاَّق لما يمكن تَصوُّره عن المثقف الهاوى، غير المتخصص، والمنتمى إلى قضايا المستضعفين فى الأرض، الذى يقول الحقيقة للسلطة، ولا يسمح للسلطات السياسية أو الشركات ذات المصالح أن تستخدم خبرته.
توفى «إدوارد سعيد» ٢٥ سبتمبر عام ٢٠٠٣ فى مستشفى بمدينة «نيويورك»، عن عمر يناهز ٦٧ عاما، بعد صراع طويل مع مرض اللوكيميا (سرطان الدم)، لكنه ترك ما يربو على عشرين كتابًا، والعديد من المقالات والدراسات الأكاديمية البارزة، ويعد فكره جزءًا جوهريًا من منهاج الدراسات العليا فى مختلف جامعات العالم، والذى يدرس جنبًا إلى جنب مع مشاهير الكتاب والمفكرين العظماء.