لا يسافر أغلب المصريين فى الخارج إلا عبر خطوط «مصر للطيران».. ليس فقط من أجل «الوزن الزائد»، بل أيضا «لأنها الشركة الوطنية»، وهو أمر طبيعى يجرى فى دماء من يذوقون مرارة الغربة حتى لمن أصبح منهم يحمل جنسية البلد الذى يعيش فيه.
لكن وللأسف الشديد، فرغم هذا الرابط الروحى بين المصريين وشركتهم الوطنية التى يعمل بها ٣٤ ألف عامل، طبقا لتصريحات شريف فتحى وزير الطيران، فإن فى الحلق «غصة» بسبب ما أصابها من أزمات تعددت ومشكلات تفاقمت، وخسائر تراكمت، وأصبح البحث عن حلول عاجلة لها أمر غاية فى الصعوبة والمشقة، لكنه أيضا ليس مستحيلا.
بقاء الشركة، وإنقاذ سمعتها داخليا وخارجيا، بات مهمة قومية، فضلا عن كونها ضرورة اقتصادية، فمنذ أن أنشأها الاقتصادى العظيم «طلعت حرب» من سنين طويلة، وهى تحظى بسمعة عالمية طيبة، وشهدت فى أغلب فتراتها نجاحا يدعو للفخر الوطنى.
ومن العبث بمكان، أن نستمتع بنجاحها ونفخر بقوتها، وعندما تحيط بها المشكلات الكبيرة، نكتفى بالفرجة، والبكاء على اللبن المسكوب، فمن واجبنا ألا نسمح لاسم «مصر للطيران» -الذى يهبط ويقلع فى جميع مطارات العالم باسم هذا الوطن، ويقول للجميع «مصر هنا»- أن تتراجع.
ويبدو أن ما يحدث للشركة الوطنية الآن أصبح مثار قلق وخوف على مصيرها، خصوصا بعد أن قال وزير الطيران «شريف فتحى» فى تصريحات صحفية صادمة، إن خسائر الشركة بلغت ١١ مليار جنيه منذ يناير ٢٠١١.
الأمر الذى دفع أحد أعضاء مجلس النواب للمطالبة بتحويل ملف الخسائر للنيابة العامة، تعليقا على بيانات «الجهاز المركزى للمحاسبات»، بأن الشركة حققت خسائر تقدر بـ١٢ مليار جنيه فى ثلاث سنوات، وأن رأسمال الشركة يقدر بـ١.٨ مليار جنيه، أى أن خسائرها بلغت ٥٦٠٪ من قيمتها.
الخطورة الحقيقية أن هناك مادة فى القانون تجبر الحكومة على إغلاق أى شركة تصل خسائرها إلى ٥٠٪ من رأسمالها، لذا قرر النائب البرلمانى أن يتقدم باستجواب لوزير الطيران حول حقيقة هذه الخسائر الفادحة.
على جانب آخر، ناقشت لجنة السياحة والطيران بالبرلمان أزمة الشركة الوطنية، وقررت عقد اجتماع خاص لمناقشة وضع حلول لتلك الأزمات.
ثم صدم الكثيرون بخبر إلغاء الشركة لـ١٠ رحلات لعدم جدواها الاقتصادية لقلة عدد الركاب.. منها أربع رحلات داخلية، أى أن الأزمات ما زالت تلاحق الشركة حتى الآن، ويبدو أن الأوضاع الاقتصادية السيئة التى ضربت البلاد خلال السنوات الأخيرة، لم تكن هى السبب فى الأزمة فقط، بل هناك أسباب أخرى كثيرة، وهو ما يجعلنا نتوقف قليلا أمام ما يجرى فى هذه الشركة العملاقة.
بدلا من البكاء والعويل الذى سوف نراه فى اجتماعات السياسيين، أو الشماتة فى تعليقات المحظورين، أو التخبط فى أداء بعض المسئولين، علينا أن ننتبه جيدا، إلى أن الشركات الكبيرة بحجم «مصر للطيران»، قد تمر بمثل هذه المرحلة العسيرة، كما حدث للعديد من شركات الطيران حول العالم.
ولدينا نماذج استطاعت أن تنفض غبار الأزمات والخسائر، وأن تعبر المشكلات بنجاح مثل الخطوط الفرنسية والألمانية والإيطالية، باختلاف طريقة كل منهم فى القيام من الكبوة.
لذا أعتقد وقبل الخوض فى الإجابة عن الحل، علينا أن ندرك حقيقة أن الحكومة والشركة والمجتمع عليهم أن يشتركوا فى عملية إنقاذ الشركة الوطنية.
أولا: المجتمع مطالب بدور أساسى فى عملية الحل، كالالتزام الوطنى باستخدام طائرات الشركة الوطنية، حتى لو كانت بسعر أعلى عن منافسيها، وتوجيه النصيحة أو على الأقل اقتراح الشركة الوطنية لمن لديه صديق أجنبى، وأن نتوقف عن ترويج الشائعات عن الشركة، أو تضخيم المشكلات الصغيرة التى تتكرر مع كل شركات الطيران فى العالم، مثل تأخر بعض الرحلات عن مواعيدها، لأن هذا الأمر قد يكون بسبب إدارة المطار أو بسبب الظروف الجوية وأحيانا السياسية، وهو أمر تكرر كثيرا مع الهولندية والفرنسية، ومثل فقدان بعض الحقائب، الذى بات سمة أساسية للإيطالية.
ثانيا: أما بخصوص دور الشركة، فعليها دراسة أحوال الشركات المنافسة التى عانت من مثل هذه الأزمات وكيف عالجت الأمر، فالفرنسية قامت بتخفيض أسعارها بعد تكرار أزمات إضراب الطيارين والمضيفين، حتى تجذب مسافرين جددا.
فى حين قامت الألمانية والفرنسية أيضا، بإنشاء شركة طيران اقتصادى تابعة لكل منهما، لتوسع فئات المسافرين لديها الذين يفضلون السعر المنخفض، مقابل الاستغناء عن خدمات الهبوط فى مطارات المدن الرئيسية، والاستغناء عن وجبة الطعام، وخدمات الوزن المجانى.
ولا أفضل على الإطلاق الحل الذى توصلت إليه الشركة الإيطالية والتى تم بيعها لشركة طيران إماراتية، لإنقاذها من عثرتها المالية الضخمة.
هذا بخلاف فكرة العروض الخاصة فى فترة الإجازات، وذلك أسوة بالشركات العالمية، فهى ليست بدعة، وأعتقد أنها ستعود بالنفع على الشركة الوطنية.. وعلى وزير الطيران المجتهد ومسئولى الشركة أن يجدوا من الحلول ما يساعد على الحفاظ على هذه الشركة والدفاع باستماتة لاستمرارها.
ثالثا: وللحكومة أيضا دور كبير فى دعم الشركة حتى تخرج من أزمتها، لا أقول بدعمها على الدوام، لكن على الأقل العمل على تخفيض الضرائب المرتفعة والمقررة عليها، والعمل على تنمية مواردها، ورفع مرتبات الطيارين والمضيفين والعاملين بها، حتى نحد من اضطرارهم إلى العمل فى الشركات العربية المنافسة.
ما أقدمه هنا ليست حلولا اقتصادية نهائية، ولا قرارات عنترية بانتشال الشركة من الخسارة، لكنها محاولات لفتح باب النقاش المجتمعى، لوضع تصورات، وجذب الانتباه، لأن ما نملكه ثمين، والشركة الوطنية باتت جزءا من تاريخنا الذى ما زلنا نفخر به، ولا أحد غيور على هذا البلد سيكتفى بمقعد المتفرجين فى مشهد تعثر للجسر الذى يربط قلوب ملايين المصريين فى الغربة بأرض المحروسة الطاهرة الأبية.