السبت 28 سبتمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

الصدمجية.. مفكر وفنان ورئيس

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى عام ١٩٨٦ كان ضيف إحدى الندوات الثقافية التى كان ينظمها أسبوعيًا القسم الثقافى بالأكاديمية البحرية الفنان حسين فهمى، سأل الطلاب الفنان أسئلة كانت إجاباته على بعضها مذهلة! قالوا له على سبيل المثال: مما تخاف؟ فقال: أخاف الفقر! وبرر هذا القول بأنه قد ذاق بالفعل مرارة الفقر فى أمريكا لما هاجر إليها من مصر بعد ثورة يوليو ٥٢ بعدما صودرت أموال وممتلكات أسرته الثرية، وقالوا: ماذا كنت تود أن تكون لو لم تحمل لقب فنان؟! فقال: جزمجي! فقالوا ضاحكين: أنت تمزح بالتأكيد، فقال: كلا.. ولكننى لا أقصد أن أكون ماسح أحذية وإنما أقصد أن أكون صانع أحذية، فمن المعروف أن الحُكْم على أى رجل يمكن أن يكون من خلال الحذاء الذى يلبسه فى القدم ومن الكرافت التى يربطها فى العنق، وقََصَّة الحذاء التى تتسم بالجمال لا تكون إلا بيد فنان، وفى بريطانيا يسمون صانع الأحذية (snob) أى الرجل (الأليت)، وهو أليت لأنه بين الناس فريد، ذلك لأنه فنان يصنع ما يُقَيَّم به الرجال، فقال له الطلبة: أرنا حذاءك، فضحك وقال: سترونه لما أخرج من القاعة، فلما خرج وجدتُ حذاءه شديد البساطة ولا يحتاج قص جلده إلى رجل (أليت) وإنما إلى رجل بسيط، والحقيقة أن بساطة الحذاء لا تعيبه كفنان لأن من المعروف أن الجمال قرين البساطة، لكننى أدركت أن كلامه فى القاعة كان يتصف بالمبالغة.
وفى عام ٢٠١٦ كان الفنان حسين فهمى أحد ضيوف إحدى حلقات برنامج (معكم) الذى تقدمه الإعلامية منى الشاذلى، شاهدت منى الشاذلى تقول له: هل حقًا كنت ترغب أن تكون ماسح أحذية؟! فقال: نعم، وأخذ يشرح كيف يجمع أحذيته أمامه من آن لآخر وينظفها بفرشة ثم بقطعة جوخ لا قماش آخر، ثم يقوم بعد ذلك بعملية التلميع بالورنيش الجاف لا السائل... إلخ، وكيف أنه لما يرى الأحذية لامعة يرمقها بعينه بسعادة بالغة!
أيقنت بعدئذ أن الفنان حسين فهمى، الرئيس السابق لمهرجان القاهرة السينمائى، والمقدم لأكثر من برنامج ثقافى، لا يود أن يكون جزمجيًا كادعائه وإنما يحب أن يكون صدمجيًا فى حواراته!
حضرت فى إحدى العواصم العربية فى عام ٢٠٠٦ مؤتمرًا ثقافيًا حاضر فيه بعض العلماء والمفكرين البارزين وعلى رأسهم المفكر الكبير السيد ياسين.. الذى صال وجال فى المؤتمر كما يصول ويجول القادة والفرسان الشجعان فى الميدان، أطلق النيران بكل جرأة وبمنتهى القوة على رموز وقامات يُعمَلُ لها ألف حساب وحساب فى أنحاء الوطن العربى، منها رموز فى بلد تلك العاصمة، هز بعض الثوابت الراسخة رسوخ الجبال فى الأذهان وشكك فى بعض الحقائق التى هى من المُسَلمات، فاتسعت حدقات عيون الحاضرين من القطر العربى الشقيق الذين فتحوا أفواههم مذهولين وهم يتابعونه بإنصات شديد وبانبهار من جرأته التى ليس لها فى بلدهم مثيل.
التقيت بعد ذلك المفكر الكبير، واكتشفت أنه كريم الطبع وطيب القلب ويمكن أن يوصف بأنه مسالم لا مهاجم، كما أنه ليس بمتكبر وإنما متواضع، يمشى مترجلًا متجردًا من سلاحه لا ممتطيًا جواده شاهرًا سلاحه.. وأيقنت أنه وإن كان يحب أن يكون صدمجيًا فى مؤتمراته إلا أنه ولا ريب لطيف كل اللطف فى حياته.
كشفت وثائق المخابرات المركزية الأمريكية عن أن المفاجأة كانت تأخذ الاتحاد السوفيتى عادة من تصرفات الرئيس أنور السادات، وأن تلك القوة العظمى كانت تقف من السادات موقف المراقب أو المرتبك دون أن تعرف الكيفية المناسبة للتعامل مع تحركاته الجريئة وقراراته الصادمة، فمثلًا كان طرد الخبراء السوفيت عام ١٩٧٢ خبرًا صادمًا بالتأكيد، وكانت إطاحة السادات فى معركته مع مراكز القوى بعدد من الوجوه البارزة المقربة من موسكو.. يعتبر بالنسبة لتلك العاصمة قريبًا من صدمة الموت المفاجئ لجمال عبدالناصر.
ومن قراراته الصادمة قرار الحرب فى عز الظهر، برغم ضعف أسلحة كل من قواتنا الجوية ودفاعنا الجوى مقارنة بالنظير الإسرائيلى.
ومن بين تلك القرارات قرار مبادرة السلام، وقد وصف لى أحد ربابنة البحرية التجارية المصرية شوارع مدينة هامبورج الألمانية قبل لحظات من وصول طائرة السادات إلى إسرائيل، قائلًا: المدينة المعمورة الصاخبة بدت وكأنها مهجورة خالية، فكل وسائل المواصلات متوقفة، وكل شوارع المدينة خالية من ألمانى واحد أو ألمانية واحدة، فالناس جميعًا بلا استثناء أمام شاشات التلفاز فى انتظار وصول الرئيس السادات.. الرجل الشجاع الذى انتصر على عدوه فى حرب العاشر من رمضان ثم ذهب بشجاعة وعز وإقدام بعد هذا الانتصار إلى عقر دار عدوه فى سابقة ليس لها مثيل لإجباره على السلام!
لقد انشق عليه فى مصر كثير من الناس بعد مبادرة السلام، ومن تحركاته الجريئة ذهابه يوم استشهاده للاحتفال بين الناس دون أن يلبس ملبسًا واقيًا من الرصاص! ولقد رأيته - رحمه الله - بعد مبادرة السلام وهو يقف مبتسمًا فى سيارة مكشوفة تسير فى إحدى الطرقات يحيى منها الناس من دون أن يضع فى الاعتبار الآثار السلبية التى يمكن أن تكون قد نجمت عن الانشقاق!