يكتب الإعلاميون والمهتمون بالشأن السياسي كثيرا لانتقاد السياسيين، وهذا دورهم لتوجيه دفة المسئول والموظف الحكومي، لكن وكما في كل شيء فهناك استثناءات، فأحيانا قد يستخدم البعض هذه الآلية كوسيلة للضغط والابتزاز أو الضرب من تحت الحزام.
ما أود قوله هنا إن النقد ليس بالضرورة أن يكون منزها وإيجابيا ولا بالضرورة أيضا أن يكون المديح دائما سلبيا.فالإشادة بالمسؤول ليست دوما من باب النفاق والتملق، في أحيان كثر تكون من باب إحقاق الحق، والتشجيع وتقديم نموذجا لغيره ليحذو حذوه، الأمانة تقتضي إن أخطأوا أن نقومهم وإن أحسنوا أن نعينهم.
خلال زيارتي الأخيرة للخرطوم في محاولة للالتقاء بالجرحى، لاسيما وأن السودان كانت الدولة الأولى التي حطت طائرتها في مطار عدن بعد تحريرها، وهي الطائرة التي جاءت محملة بأطنان من المواد الاستطبابية والعلاجية وطواقم من الاطباء والتمريض والمعاونيين، وهم كانوا شهود العيان الأوائل على حجم الدمار الذي شهدته المدينة بفعل عدوان ميليشيا صالح والحوثي المشترك.
ومنذ أن وطأت قدماي أرض الخرطوم كان كل من التقيه يرشدني إلى ضرورة الالتقاء بالطبيب الملحق العسكري بسفارتنا، وهو المسئول بشكل مباشر عن ملف الجرحى هناك، للأمانة لم أكن أتعمد عدم الالتقاء به، لكن وقتي كان ضيقا ومحملا بالتقصي والبحث للحد الذي يجعل اللقاءات البروتوكولية بالمسئولين يتراجع.
وشاءت الأقدار إلا أن التقيه وأشهد بأم العين كيف يتعاطى هذا الرجل مع أبنائه كما يستطيب له أن يسميهم ويتعامل معهم-وهم الجرحى- لم يكن الأمر مجرد شعار، فالرجل لايطبق شفتيه على لقمة حتى يطمئن إلى أن الجرحى الذين يشرف على ملفهم قد أكلوا، وهم يأكلون مما يأكل، بل ويهتم بتفاصيلهم الأدق إلى حد قد يراه البعض من قبيل الكماليات، فهذا جهاز هاتفة المتنقل قد تعطل فيتكفل بإصلاحه، وآخر بطارية جهازه تعطلت قيستبدلها، الأمر كان يسير تلقائيا دون تكلف أو محاولة لإيهامي.
الرجل يعرف تماما كل ما مروا ويمرون به، هم شباب بعمر الزهور، أعمارهم تتراوح بين ١٧حتى ٢٢ بترت أطرافهم أو تلتهم أجسامهم الحروق، شباب كانوا في مقاعد الدراسة يمتلئون بالأحلام للمستقبل والطموح، فوجدوا الحرب قد فرضت عليهم، ودمرت حياتهم وتتآمر على مستقبلهم بعد أن وصمتهم بعاهات مستديمة، وهم غاضبون حانقون على المجتمع والمسئولين والصحافة والإعلام والحقوقيين، الذين يرون انهم جميعا تخلوا عنهم أو حتى يتاجرون بهم، هم يفقدون الثقة في الجميع.
لايبتسمون إلا حين يظهر هذا الرجل يتبادلون معه النكات والقفشات بانبساط وأريحية، يثقون به، لأنه يمنحهم أكثر بكثير مما تفرضه عليه أعباء الوظيفة والملف المكلف به، بل ما تفرضه عليه مسؤولية الأبوة كعطاء مستمر، ماتفرضه عليه التجربة التي مر بها، فالرجل كما هم تعرض للاختطاف والاحتجاز من قبل جماعة الحوثي، ويفهم جيدا آثار هكذا تجارب، وهو طبيب عسكري أدى القسم، قسم شرف المهنة والعسكرية، وهو ملتزم بهذا الشرف كما لمست، وأحسبه كذلك .
وأنا في طريقي إلى المطار كنت أفكر لو كل مسؤول تعامل من هذا المنطلق، لا الأبوة كسلطة أبوية بابوية تسلطية، فنحن نتصدى لهكذا مفاهيم ولانريد منهم إلا التعامل معنا كموظفي دولة، لكن الأبوة بحنانها الذي يتعاطون به مع أبنائهم فيؤثرونهم ويقدمونهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، لو تعاملوا هكذا لكان فعلا تغير الكثير.الطبيب الدبلوماسي أحمد الشعناء،، شكرا،، أعرف انك لا تحتاجها ولا تنتظرها، لكنك فعلا تستحقها،، شكرا.