بعد «بالعربى الفصيح» وجدتنى أفكر فى كتابة مسرحية باسم «سعدون المجنون».
كنت وإخوتى قد ذهبنا لنعيش فى منزل أبى بعد أن انفصل عن أمى وكان أبى قد توقف عن الكتابة السياسية لأنه كان ممنوعا تماما من هذا مثل كثيرين من جيله.. وكتب فى جريدة «الجمهورية» التى يديرها السادات ولكن سرعان ما منع من الكتابة رغم خلوها من أى شيء يزعج السلطات.
ثم كتب فى جريدة «التعاون» وقتها وسرعان ما منع منها أيضا ثم هاجموا
منزلنا مرتين فرفع قضيتين على الجريدتين ولكن لم تحكم له المحكمة إلا بعد وفاة ناصر.
وخلال ذلك هاجموا المنزل مرتين ولم يكن هناك أى مبرر.. فأصيب بجلطة وظل مريضا حتى توفى ورغم أنه كان قد كتب كتابا قبل ذلك يشيد بتأميم القناة.. وكان يدعو له بشدة وإلحاح من قبل وصول الضباط الأحرار.
وأتذكر هذه الذكرى كما الأمس.. كنت فى المدرسة الإعدادية ولما أخذنا الإجازة حررت ومعى أولاد عمى مجلة طبعناها ووزعناها على الأقارب كانت الصفحة الأولى صورة ملونة لعبدالناصر وهو يخطب والصفحة الثانية صورة أخرى له أيضا.. ولم يكن أبى قد اطلع على المجلة أو عرف عنها شيئا.. وكان لأبى مكتب يجلسنى فيه فى الإجازة ولما رأى المجلة سألنى هل تحب عبدالناصر؟ أحمر وجهى ودهشت من السؤال وقلت بالطبع.. كان السؤال الثانى لماذا؟ ضايقنى السؤال وتضايقت منه ورحت أبحث عما درسناه.. فقلت بعضا من المبادئ الستة للثورة.. وأحس أبى بضيقى فسكت ولم يتحدث معى ثانية ولكن جاء رجل بالمكتب وأنا وحدى فسألنى عنها ومن يصدرها وعلم فقلت أنا وأولاد عمى فضحك ومشى.. ويومها قالت لى أمى إنها سوف تحبس لأنها مع الشيوعيين ولم تقل لى إنها تضايقت من الحزبين المتصارعين وشعرت بالقرف فلزمت بيتها.
ثم بدأت حملة ضد الشيوعيين فقالت لى إنها ستحبس وطلبت منى أن
أكون قويا ولكنها لم تحبس وعرفت بعدها أن قياديا فى حزبها انتهز فرصة غيابها لينصب زوجته بدلا منها فقبض عليها، أما هى فقد اكتفوا بأن يعلموها الاشتراكية.
ومنذ أن بلغت السابعة عشرة على الأقل كنت أتابع صحف ومجلات فترة الستينيات، أقرأ وأتابع خطب الزعيم بعد أن أسمعها وأشاهدها مرات عديدة مذاعة بالراديو والتليفزيون، وقرأت تعليقات الكتاب والصحفيين المصريين والعرب والأجانب عليها.
وفى المدرسة درست بعض تلك الخطب وأعربت نصوصها ونلت فيها أعلى الدرجات، كما درست أجزاء من الميثاق بالعربية والإنجليزية.
وفى حصص التاريخ والتربية الوطنية عرفت تاريخ مصر منذ أسرة محمد على وحقبة الإقطاع ثم الرأسمالية المستغلة والاحتلال والعهد البائد.. إلخ.
واستمعت إلى برامج صوت العرب وشاهدت فى التليفزيون الاحتفالات بأعياد الثورة والاستعراضات العسكرية والبرامج التى توضح النهضة الزراعية والصناعية والتعليمية والثقافية.. إلخ.
كما قرأت وشاهدت معظم مسرحيات الستينيات وحفظت كل أناشيد الثورة وأحببتها ولا أزال وأنشدتها فى المدرسة والشارع وفى الحمام، وتغنيت بها مع حبيبتى فى نزهاتنا الخلوية! وفى عام ٦٧ كنت قد تخطيت سن الرشد بعام.
لم أكن ناصريا.. أعترف بذلك.. ولم أصدق كل هذا الركام الهائل من الكلام والأصوات والصور.. الأمر الوحيد الذى صدقته أننا سنكسب المعركة التى بدأت فى ٥ يونيو ١٩٦٧.. وفى ٩ يونيو استمعت لخطاب التنحي، وقبل أن ينتهى الخطاب كنت فى الشارع أهتف مع الملايين، ولو عاد التاريخ لعدت.. فلم يكن هناك أى خيار آخر.
أكتب هذه المقدمة حتى لا يطلب منى أحد أن أرجع مرة أخرى لوثائق
وأدبيات الثورة، أو ينبهنى إلى بعض ما فاتنى من تفاصيلها.
وللقارئ أو المتفرج كل الحرية أن يصنف مسرحيتى على أنها رجعية أو تقدمية أو حتى هزلية مسفة.. فكل هذه المسميات أحكام تتعلق بالفكر.. لكن ما أرجوه جادا وصادقا -ألا يصنف البعض مسرحيتى على أنها سياسية.
فالناصرية وإن كانت تنظر للفكر على أنه مكروه، إلا أنها كانت ترى فى العمل السياسى جريمة، وكانت تأخذ على المعتقلين تعهدا وإقرارا بعدم الاشتغال بها.. وأنا ابن هذه الفترة، وقد كنت وفيا لها وللنظام، فلم يكن لى أو لأى أحد قابلته من جيلى بلا استثناء بطاقة انتخابية، وإذا كنت لم أتبع الزعيم والطريقة.. فقد يغفر لى أنى لم أتبع غيره.. ورغم مرور الأعوام، فمازلت أحرم ذلك على نفسى أخذا بالأحوط.
إذن.. هذه مسرحية.. لا أكثر ولا أقل.. ولتطمئن روح الزعيم حيث يرقد.