زمان من ييجى عشرين سنة وأكتر، دخلت مبنى ماسبيرو لأول مرة فى حياتى، كان المرور من بواباته الضخمة حدثا فى حد ذاته بالنسبة لى، وفضلت سنين طويلة أتوه فى دورانات أدواره الستة والعشرين، وفى كل مرة كنت باتوه فيها كنت أستعين بصديق مختلف علشان يوصلنى للمكان اللى أنا رايحه.
المهندس العبقرى اللى بناه كان عامل حساب كل حاجة فى هذا المبنى اللى اتحول لرمز، له قيمة ومهابة ليس فى نظر الدولة والعاملين فيه فقط، بل كل المصريين وربما العرب، يعنى من الآخر ماينفعش تصحى من النوم ما تلاقيش المبنى ده، بالإيريال الضخم اللى فوقه أو ما تلقاش برج القاهرة مثلا.
لكن المهندس ده اللى بنى العمارة دى، ماعملش حسابه إن فيه كشك هيطلع قدامه وبيبقى حتة منه، مش كده بس، بل وسيتحول فى يوم من الأيام إلى رمز له نفس أهمية المبنى عند زائريه، الكشك ده إحنا عرفناه باسم كشك الصحافة، ومافيش واحد من الملايين اللى دخلت المبنى للعمل أو للظهور فى قنوات ماسبيرو ماعرفش عم عريان، ولما انتقل إلى رحمة الله، كان حزن العاملين والمترددين على ما يبدو حزنا حقيقيا، ربما فاق أحزانهم على قيادات مهمة غادرت المبنى، وكان لها شنة ورنة، والكشك ده لما حبوا يطوروا المنطقة حبوا يشيلوه، بس صفوت الشريف كان موجود، ولما عرف حكاية شيل كشك عم عريان بتاع الصحافة زعل جدا واداهم درس مهم فى رمزية وقيمة الرجل والكشك بتاعه، ولا يزال كشك عم عريان موجودا رغم أن الأسوار التى أحاطت بمبنى ماسبيرو جعلته مستورا لا يبين منه شىء.
تذكرت هذا الأمر وأنا أتابع منذ أيام قصة كشك مماثل يعرفه كل من دخل «الأهرام» و«الأخبار» أو مر على الإسعاف فى طريقه إلى «الجمهورية» أو إلى نقابة الصحفيين، هو كشك عم أدهم عمران.
الكشك ده زيه زى كشك عم عريان، يتبع نقابة الصحفيين بالقانون، فقد رأى المشرع فى يوم ما أن تقوم النقابة بتنمية مواردها من تأجير بعض الأكشاك علشان كده سموها أكشاك الصحافة، زى قطر الصحافة للى بيودى الجرايد للأقاليم.. المهم أن هذا الكشك الذى تعود كبار ورموز مصر المرور عليه والتسامر مع صاحبه الصعيدى، يتعرض هذه الأيام وصاحبه طبعا لعملية غريبة لا أفهم لها مبررا من قبل السيد اللواء أيمن عبدالتواب نائب محافظ القاهرة، والرجل معروف بنزاهته وانضباطه ورجاحة عقله.
وهذا ما جعلنى أحاول فهم سر إصرار سيادة اللواء على إزالة الكشك (هدم الكشك وقطع رزق صاحبه وعياله)، بحجة أنه يرتكب مخالفات جسيمة، لكن سيادة اللواء لم يوضح ما هى هذه المخالفات ولا ما هى جسامتها التى تجعله «يهدم» باب رزق مفتوح، كان ولا يزال رمزا من رموز أكشاك الصحافة فى وسط البلد.
أولاد صاحب الكشك جاءوا إلينا، وقدموا أوراقا، لدينا نسخة منها، تؤكد أنه مرخص منذ سنوات طويلة جدا، وأن نائب المحافظ نفسه سبق أن كتب بتوقيعه أنه لا توجد مخالفات، بل إنه قام بتكريم صاحب الكشك منذ شهور وسلمه شهادة تقدير وأرانى الرجل صورته وهو يتسلم شهادة التقدير من سيادة نائب المحافظ، وأخطر ما قاله الرجل أن نائب المحافظ يقول إن الكنيسة المقابلة لهم تشكو منه، ولذلك ذهبوا إليها وجاءوا بخطاب رسمى من قادتها يؤكد أنهم جيران وحبايب ولا توجد أى شكوى منهم.
إيه الحكاية بقى، إذا كان الرجل مخالفا، فلماذا لا يحدد نائب المحافظ هذه المخالفات، لو كان الرجل يبيع المخدرات بدلا من الصحف فعلى شرطة المخدرات أن تقبض عليه، وإذا كان يصنع المتفجرات فى الكشك بدلا من مجلات سمير وميكى فأجهزة الدولة المعنية كفيلة بالقبض عليه وتقديمه للعدالة لإعدامه، أما أننا نترك كل مهامنا ونتفرغ لسحب البلدوزر كل يوم والتانى لتهديد الرجل فى رزقه، فهذا ما أستغربه من رجل كان ولا يزال مرشحا ليتولى منصب المحافظ، وممكن يبقى وزير.
كيف للرجل وهو بهذه القامة والقيمة أن يغيب عن ذهنه ما تعانيه البلاد من أزمة بطالة طاحنة، ومن المؤكد أن يعرف كيف تعمل الدولة -الكفت- علشان توفر فرصة عمل لأحدهم، ألم يخطر فى باله إلى أين سيذهب هؤلاء، وإلى ماذا سيتحولون، ألم يجد طريقة أخرى لإدارة الأمر إذا كانت هناك مخالفات فعلا لإزالتها والتعامل معها.
أثق بأن الأمر فيه سوء فهم، والتباس واضح، وأتمنى على السيد محافظ القاهرة أو القائم بأعماله، والسيد وزير التنمية المحلية التدخل لإيقاف مثل هذه النوعية من التصرفات وأخطر ما فيها بالتحديد حشر الكنيسة فى موضوع لا ناقة لها فيه ولا جمل، ولا سيادة النائب مش واخد باله أن البلد مش ناقصة؟!