لست خبيرًا اقتصاديًا لأكتب روشتة الخروج من نفق لهيب الأسعار الذى تعيشه مصر بفضل غياب الرؤية والتردد فى الانحياز المعلن للطبقات الشعبية، فالمتابع عن قرب لما يدور على أرض المحروسة منذ يونيو ٢٠١٣ يلاحظ تعدد المهام التى تحاول الدولة العمل على إنجازها، من مشروعات كبرى ومن مواجهة تحديات صعبة فى الداخل والخارج، وكذلك محاولة زراعة الحلم لدى جموع الشعب بلا استثناء.
تلك الرؤية الجامعة كنت معها معتقدًا فى رُشد الطبقة التى يقولون عنها طبقة رجال الأعمال، وأنهم بعد دورس يناير ويونيو قد عادوا إلى صوابهم، وأن دورهم المجتمعى هو ضريبة لازمة عليهم، ولكن بمرور الوقت رأينا تجبرًا منهم ومحاولات مستميتة للهروب من واجبهم ومن التزامهم القانونى فى دفع الضرائب المستحقة، كل واحد منهم يرى أن العمال بمصنعه هم أسرى حرب، وأنه قادر على كسر ذراع الحكومة من خلال الضغط عليها بتشريد العمال وغلق المصانع والهروب للخارج.
تابعت مجهودات الدكتور إبراهيم محلب فى استرداد أراضى الدولة المنهوبة عبر عشرات السنوات، وانتظرت أن ينعكس حصاد تلك المجهودات على المواطن المصرى من خلال استخدام الأموال المستردة فى إعادة تشغيل المصانع المغلقة أو فى تخفيف الأعباء المالية على جموع الشعب، سواء كانوا معاشات أو فى الخدمة، انتظرت أن تتم السيطرة على السلع الأساسية وفرض تسعيرة منافسة للمحتكرين وضرب مؤسسة فساد الاحتكار.. انتظرت ولكن لم يحدث شيء.
يؤسفنى أن أرى شباب مصر وهو فى طابور انتظار مسكن أو علاج أو فرصة عمل، يؤسفنى أن أرى أصحاب المعاشات وقد التهمت أسعار الأدوية مجمل معاشهم ليبحثوا وهم فى سن التكريم عن فرصة عمل جديدة لهم فقط ليجدوا ما يدفعونه مقابل الأكل والشراب.
السوق المصرية واعدة وكبيرة ورائعة وقادرة على تبادل المصالح للجميع سواء كان غنيًا أو فقيرًا، ولكن العشوائية التى تحكمه تجعله كما بحر غامض تلتهم فيه الأسماك الكبيرة صغارها، هذا مؤشر خطير جدًا، فالجبهة الداخلية التى هى صمام أمن وأمان الوطن إذا اهتزت أو ساورها الشك فى غموض مستقبل أيامها فهذا هو الخطر بعينه، حربنا ضد الإرهاب المتأسلم يبدأ من حربنا ضد الحواضن التى ينمو ذلك الإرهاب فى كنفها، وأولى تلك الحواضن هى التفاوت ما بين الدخل والمنصرف للمواطن البسيط. إذن يحتاج الأمر إلى شجاعة فائقة النظير وإلى قرارات مصيرية وإلى وضوح وجدول زمنى وإلى شفافية ليتحرك درع الوطن المسمى بالمواطن المصرى وهو مطمئن على أولاده ومستقبلهم، وفى هذا السياق يعرف كل خبراء الاقتصاد ويعرف الساسة أن الطبقة الوسطى فى أى مجتمع هى ضمانة استمراره وتقدمه، وللأسف الشديد تم ظلم تلك الطبقة فى مصر على مدار أربعين عامًا حتى أن المفكر الاقتصادى الكبير الدكتور رمزى زكى، رحمه الله، أصدر كتابًا شافيًا ووافيًا بعنوان «وداعًا الطبقة الوسطى» وذلك لتدهور أوضاعها حتى باتت تمثل الشرائح العليا من الطبقة الدنيا، وعن الكتاب المشار إليه يقول الاقتصاديون فى تعريفهم للطبقة الوسطى إن هذه الطبقة يمكن تعريفها على أنها مختلف الشرائح الاجتماعية التى تعيش بشكل أساسى على المرتبات المكتسبة فى الحكومة والقطاع العام وفى قطاع الخدمات والمهن الحرة الخاصة، بيد أن أهم ما يميز هذه «الطبقة» هو أن دخل أفرادها ناجم عن العمل الذى يغلب عليه الطابع الذهنى والتقنى، ولهذا يطلق على أفرادها فى بعض الأحيان: ذوى الياقات البيضاء.
المهم هو أن الخبراء المحيطين بالرئيس فى مؤسسة الرئاسة وطابور الوزراء والمسئولين التنفيذيين فى طول مصر وعرضها إذا لم ينتبهوا لخطورة انفلات الأسعار، وإلى أهمية انعكاس التنمية الجادة على المواطن البسيط فهم بذلك يقذفون بنا للوراء عشرات السنين، وهو ما لا يليق بمصر التى نريدها شامخة شموخ الـ٣٠ مليون مصرى الذين خرجوا فى ٣٠ يونيو.