أدهشتنى للغاية التصريحات التى أدلى بها بعض الكتاب تعليقًا على الانقلاب الفاشل الذى قادته مجموعة من ضباط الجيش التركى على «أردوغان» ونظامه.
فقد صرحوا بكل جسارة أن «أردوغان» هو الذى نظم هذا الانقلاب حتى يطهر الجيش من خصومه!، وأنا أعتقد أن هذا التفسير صياغة رديئة لطريقة التفسير التآمرى للتاريخ!.
وذلك لأن «أردوغان»- فى مرحلة صعوده السياسى الحالية- والتى تتمثل فى رغبته المؤكدة لتحويل النظام السياسى التركى إلى نظام رئاسى بما يكفل له السلطة المطلقة فى إدارة شئون البلاد، ليس فى حاجة إلى التخطيط لهذا الانقلاب بما ترتب عليه من خسائر بشرية واضطراب شديد، خصوصا بعد قصف البرلمان وغيره من المؤسسات.
لقد سبق لأردوغان أن صفى حساباته التاريخية مع الجيش الذى كان الدستور التركى يعطيه الحق فى التدخل السياسى إذا حاقت أزمة سياسية بالبلاد. وقد صفى هذه الحسابات بطريقة انتقامية رخيصة لأنه ألقى القبض على عدد من جنرالات الجيش القدامى الذين سبق لهم أن شاركوا فى عدد من الانقلابات وحاكمهم ووقعت على بعضهم عقوبات بالسجن.
ولا أعتقد – من وجهة النظر السيكولوجية البحتة- أن الجيش التركى قد غفر «لأردوغان» ما فعل. وهذا طبيعى أن المؤسسة العسكرية لا تقبل بسهولة إهانة قوادها، وهى إن قبلت ظاهريا ما قام به «أردوغان» من محاكمات إلا أنه بقيت فى النفوس أشياء مما حدث.
«أردوغان»- بالرغم من الأزمات التى وضع تركيا فيها نتيجة بعض قراراته الخرقاء وأبرزها تأييد جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، ورفضه لما حدث من ثورة شعبية فى ٣٠ يونيو وزعمه بأنها كانت انقلابا عسكريا - يحاول هذه الأيام «ترميم» السياسة الخارجية التركية.
وقد حاول أن يعيد العلاقات مع روسيا وخصوصا بعد إسقاط سلاح الجو التركى طائرة عسكرية روسية، ثم تحوله لتحسين علاقاته التى كانت قد توترت مع إسرائيل بالرغم من التعاون العسكرى والاقتصادى الوثيق الذى قام منذ سنوات بين الدولتين، وقد أثارت اتفاقاته الأخيرة مع إسرائيل حرجا شديدا لقيادات الإخوان الهاربة إلى تركيا وحاولت عبثا أن تبررها بأنه فعل ما فعل دفاعا عن الشعب الفلسطينى فى غزة لمساعدته على فك الحصار عنه!.
والواقع أن الاتفاقيات التركية الإسرائيلية الأخيرة أثارت اضطرابا لدى قادة الإخوان الهاربين إلى تركيا لأنها قدمت لهم الملاذ الآمن، بل سمحت لهم بممارسة نشاطهم السياسى المعادى للدولة المصرية. بل إن «أردوغان» سمح لهم بتأسيس قنوات تليفزيونية إخوانية تبث كل مساء برامجها المعادية ليس للدولة المصرية فقط وليس لثورة ٣٠ يونيو فقط ولكن للشعب المصرى ذاته!.
ومن يتابع هذه القنوات سيلاحظ أنها تهاجم مختلف فئات الشعب، بل إن بعض القيادات الإسلامية يدافع عن الإرهاب صراحة باعتباره سلاحا مشروعا ضد ما يعتبره انقلابا حدث فى ٣٠ يونيو!.
ولو عدنا مرة أخرى إلى موضوع مقالنا، وهو التفسير التآمرى للتاريخ، لقلنا إننا لا ننكر أنه فى مجال العلاقات الدولية أحيانا تقوم مؤامرات تتمثل فى اتفاق عدد من الدول على شن حرب ضد بلد معين لأن كل دولة لها مصلحة مؤكدة فى شن الحرب.
ويكفى فى هذا الصدد أن نشير إلى المؤامرة التى شاركت فيها كل من فرنسا وإنجلترا وإسرائيل التى قررت فى اجتماع تآمرى انعقد فى بلدة «سيـفر» شن هجوم ثلاثى على مصر انتقاما من قرار الرئيس «جمال عبد الناصر» تأميم قناة السويس.
فرنسا كانت لها مصلحة مؤكدة بعد أن فقدت بالتأميم قناة السويس، وإنجلترا أرادت الانتقام من مصر بعد أن أرغمتها اتفاقية الجلاء التى وقعها معها «جمال عبد الناصر» على الانسحاب من مصر، وإسرائيل كانت لها مصلحة مؤكدة فى إضعاف مصر التى كانت تعتبرها عدوها الرئيسى.
هنا مؤامرة بالمعنى الحقيقى للكلمة، وقد أكد ذلك نشر وثيقة «سيفر» التى وقع عليها جى موليه وأيدن وبن جوريون فى صحيفة إسرائيلية وقد نشرنا نص الوثيقة فى كتابنا «العالمية والعولمة».
بعبارة أخرى حين نقول إن هناك مؤامرة أولا لابد من توافر الأدلة على وجودها. وفى هذا المقام لا يصلح -فى نظرنا- التفكير التآمرى لتفسير الأحداث. ولذلك يبدو أن سيناريو الانقلاب ضد نفسه الذى دبره أردوغان شخصيا غير قابل للتصديق!.