فى صباح ٢٣ يوليو ١٩٤٢ - قبل ثورة ٥٢ بعشر سنوات - ولد فى مدينة القاهرة، ثم تخرج من مدرسة «الجيزويت»، أرقى المدارس الفرنسية ليحصل على ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة، لكن عشقه بلا حدود لمجال الإعلام ظل يحرضه دومًا، فبدأ صحفيًا بالقسم الرياضى فى جريدة «الأخبار» ثم «الأهرام»، ثم معدًا للبرامج بالتليفزيون المصرى عام ١٩٧٠.
لقائى الأول به كان فى نادى «الجزيرة» الرياضى، حينما وصلت متأخرة عن موعدى حوالى نصف ساعة، لأجده جالسًا هادئًا متأملًا فى كامل أناقته فى بالكون «الليدو»، مرتديًا نظارته السوداء، ومنديله المميز الملفوف حول رقبته، فبادرت بمصافحته، لكنه بدا غاضبًا جدًا، فانهمرت دموعى دون توقف طوال حديثه اللائم لى عن عدم احترامى للمواعيد، لكنه سألنى مداعبًا - ذات مرة فيما بعد - عن سبب هذا الدموع، فقلت له: (هو تصرف عفوى، خشيت به سوء انطباعك الأول عنى).
جدوله اليومى حافل، فهو يستيقظ فى الثامنة صباحًا، ليتوجه إلى «نادى الجزيرة» فى التاسعة، ثم يلتقى بفريق عمل الإعداد التليفزيونى- وكنت أحد أفراده - عصرًا بالنادى أو بمكتبه فى الزمالك، ونظل نعمل بدأب ونشاط سويًا طوال أربع ساعات متواصلة، وربما أكثر.
حرص دومًا على تناول وجبة الغداء مع كل أفراد أسرته، وأحب السفر للخارج، ورغم تعدد معارفه وأصحابه، إلا أنه ابتعد عن التجديد فى أسلوب حياته، فالبيت المولود فيه، هو نفسه المتزوج فيه، والمتزوجة فيه ابنته، أما نادى «الجزيرة» الذى اعتاد الذهاب إليه منذ صغره، فكان يجلس يوميًا به، مستمتعًا بصحبة أعز أصدقائه وأحبائه.
كان قليل الكلام، يفضل ما قل ودل، حنونا، ومهذبا للغاية، يعتز بذاته، وأهم شىء فى حياته هو عمله وأسرته ووالدته وأحفاده، ورغم عصبيته الشديدة بسبب تناول العديد من الأدوية، وظروف مرضه القاسية، إلا أنه كان محاربًا نبيلًا جسورًا، لا يشتكى أبدًا، ولا يشعر أحد بتعبه.
توالت لقاءاتى عامًا كاملاً معه وفريق برنامج «تجربتى»، الذى أذيعت حلقاته على القناة الثانية، وكم أعتز بتحضيرى شخصيات مهمة منها؛ الفنان «عمر خيرت»، عالم الجيولوجيا «رشدى سعيد»، رئيس مجمع اللغة العربية «محمود حافظ»، نبيل العربى، «فرخندة حسن»، «مراد وهبة».
بدت رياح عصبيته عاتيةً، وانفعاله كاسرًا، قبل بدء وبعد انتهاء كل حلقة يقدمها، رغم هدئه الواضح، وتركيزه التام، وابتسامته الملائكية الساحرة أثناء فترة التصوير، لكن المثير للدهشة هو طبيعته المختلطة بعدة سمات شخصية متعارضة: الرقة المفرطة والصرامة إلى حد القسوة، الجدية البالغة وخفة الدم، الذكاء البالغ والتواضع الشديد، الثقة بالنفس وتحمل مسئولية القرار واعتياد التأكيد على كل تفصيلة صغيرة مرارًا وتكرارًا.
عشت أصعب وأسعد أوقاتى خلال اجتماعات ونقاشات العمل المتواصلة، داخل غرف «المونتاج» المغلقة والمظلمة - ساعات طويلة لاختيار أفضل «لقطات» قدمها فى حوارات قديمة أجراها مع أهم الشخصيات البارزة، والتى أشرفت بنفسى على مراجعتها، لإعادة تقديمها بشكل مبتكر وجديد، لتذاع فى بعض القنوات الفضائية الخاصة خلال شهر رمضان.
علمنى تقدير واحترام كل لحظة نعيشها، وعبقرية التعامل مع مختلف طبقات البشر، وعشق النظام والجمال والدقة فى كل شىء، وأناقة لغة الحوار، ووزن كل كلمة بميزان حساس، فلا يكاد يترك كلمة بل حرفًا دون نقد أو شرح أو تحليل، وكم أفزعتنى صرامته الهادرة، وحين أحس مضايقتى ذات مرة، قال: «لن تدركى قيمة ما أفعله إلا بعد انقضاء عشر سنوات».
لن أنسى زيارتى الأخيرة له فى بيته الأنيق بالزمالك قبل وفاته بحوالى شهرين، تحدثنا فى أمور عدة، وفى لحظة بدت عيناه مختنقتين بالدموع، وكأنه اعتذار رقيق حثيث من أستاذ لم يتكرر حتى الآن إلى تلميذته النجيبة- كما لقبنى دائمًا- عن صرامته وقسوته البالغة، قلت له: إننى أدركت قيمة ما كان يفعله بعد انقضاء شهور قليلة وليس عشر سنوات.
ظل يعمل ويفكر ويبدع حتى آخر يوم فى عمره، حتى غابت إشراقته عن الوجود فى ١٤ يونيو ٢٠١٣، عن عمر يناهز سبعين عاما، لكن ظلت عبارته الشهيرة المميزة: «مع أجمل المنى.. وأرق تحياتى» فى نهاية كل برنامج قدمه، تتردد فى عقول ووجدان كل المصريين.
إنه فارس الإعلام الراحل الرائع «طارق حبيب».