من ثوابت السياسة الخارجية المصرية عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى، وبكل المقاييس يمكن القول إن محاولة الانقلاب في تركيا التي وقعت مؤخرًا هي من صميم الشأن التركى، وبالتالى تقف مصر من الأمر موقف المتابعة والمراقبة لتطورات الأحداث بحكم حرصها على استقرار وأمن الشعب التركى الذي تربطه بالمصريين علاقة دين وتاريخ بغض النظر عمن على رأس الحكم في أنقرة.
وفى الوقت نفسه لا يمكن التقليل من نجاح التجربة التركية على المستويين الديمقراطى والاقتصادى، وهو من وجهة نظرى أن هذا لا يعنى سوى المواطن التركى. ومن منطلق هذا تبلورت السياسة المصرية تجاه ما حدث ويحدث الآن في تركيا، لكن دعونا نتحدث بصراحة إن أي مراقب محايد لا بد أن يشعر بالقلق نتيجة التطورات التي وقعت في أعقاب فشل الانقلاب الذي لم يستغرق سوى ساعات محدودة من الليل، وهو أمر يثير علامات تعجب بالمقارنة بالانقلابات السابقة في تركيا التي تصنف من الدول ذات البنية السياسية المضطربة والتي تجعل من المؤسسة العسكرية متماسة دائما مع السلطة السياسية، ومن هنا إضعاف هذه المؤسسة سيؤدى إلى تغيير في المعادلة التركية منذ عهد كمال أتاتورك.
وهذا يجعلنا نلقى الضوء على شخصية رجب طيب أردوغان، فهو من الشخصيات السياسية في عالم اليوم المثيرة للجدل، غير أن كل الاتجاهات تجمع على أنه شخصية متسلطة، يفتقر إلى الدبلوماسية ويميل إلى الفكر التآمرى في التعامل مع الآخرين، لا سيما خصومه، وهى سمات تقود إلى أن يسلك صاحبها سلوكًا ديكتاتوريًا ويتضح ذلك من ردود أفعاله غير المحسوبة.
ورغم ذلك يتمتع الرجل بشعبية من خلال علاقة استثنائية أو كاريزمية تربطه بشعبه، الذي ما زالت تسيطر عليه الثقافة العثمانية بكل ترفعها وعنجهيتها، وأتصور أن العالم في القرن الحادى والعشرين لم يعد يستسيغ هذا النوع من الساسة الذين يفتعلون الأزمات على مستوى السياسة الخارجية من آن لآخر، لا سيما في الاتحاد الأوروبي الذي ترفض دوله قبول تركيا حتى الآن عضوًا فيه لنفس السبب، ولأسباب أخرى سوف نتحدث عنها في مجال آخر.
ولهذا نرى أن أردوغان قد استفاد من هذه العلاقة مع شعبه في إفشال محاولة منتصف يوليو الانقلابية، وبصرف النظر عن كواليس وأسرار فشل المحاولة التي سوف يسقط عنها النقاب في الأيام المقبلة، ودور الأطراف الأخرى، خاصة الولايات المتحدة، في التدخل لصالح استمرارية نظامه.
ونلاحظ أنه حرص منذ تواتر الأنباء عن وقوع الانقلاب على دعوة الجماهير من الشعب التركى إلى النزول إلى الشوارع والميادين لأنه أراد أن يستفيد بعلاقته بشعبه، بل دعونا نقول إن أردوغان أدرك أهمية الشرعية الجماهيرية التي تستمد قوتها من إرادة الشعب في لحظة معينة وتجب كل ما قبلها، وهذا يجعلنا نكتشف أنه وقع في تناقض منهجى وفكرى، فهو الذي لم يعترف بشرعية إرادة الشعب المصرى عندما قامت ثورة الثلاثين من يونيو عام ٢٠١٣ وأسقطت حكم الإخوان، ولم يتدخل الجيش المصرى إلا لحماية الثورة وتنفيذ مطالب الشعب، ورغم هذا يصف أردوغان ثورة مصر بالانقلاب، وكأنه يتعامل بروحين في التعاطى مع الأمور، بل إن ردة فعله بعد أن استرد السلطة عقب سويعات الانقلاب كانت عنيفة، وقام بقتل العشرات من خصومه، واعتقل أكثر من سبعة آلاف مواطن تركى من الشرطة والجيش وسلك القضاء والمسئولين والمدنيين، وأوقف عشرات الآلاف من الموظفين العامين عن أعمالهم، وينتظر المعتقلون مصيرا غامضا بعد أن حث البرلمان على الموافقة على إعادة العمل بعقوبة الإعدام، والطريف أن أردوغان العنيف في التعامل مع الخارجين على نظامه يفتح بلاده لاستضافة الخارجين على ثورة الثلاثين من يونيو في مصر، ويحوّل تركيا إلى وكر للهاربين من الإرهابيين ينفثون منها حقدهم الأسود على مصر وثورتها ورئيسها.
إذن نحن أمام شخصية مليئة بالعقد النفسية والمتناقضات المرضية ويحتاج، حقيقى، لعلاج سيكولوجى، وعموما فإن العلاقات بين الشعوب أكبر من الحكام وتحكمها المصالح والاحترام والتقدير المتبادل، وطبيعة الأشياء تقول إنه لا عداوة دائمة ولا صداقة دائمة إنما مصلحة دائمة، وهو ما لا يعيه ديكتاتور تركيا!!.