كثيرون هالهم المشهد الذي وقع بالقرب من مرقد النبي صلى الله عليه وسلم، منذ عدة أسابيع، وأبدوا دهشتهم من ذلك الشاب الذي هانت عليه نفسه أولا، ثم تجرأ على تقديم جسده قربانًا للشيطان في المدينة المنورة، وداخل المسجد النبوي، وفي شهر رمضان الذي خصه الله بفضائل عظيمة، والحقيقة كنت واحدًا من الذين فزعوا لهذا الموقف، وما زاد فزعي هو أن القربان البشري، قد تناول طعام الإفطار مع الجنود الذين فجر نفسه فيهم، حينما حاولوا منعه من دخول المسجد المبارك، إلا أن عجبي بدأ يتضاءل حينما أخذت أراجع الأصول العقدية والفكرية للجماعات المتطرفة ليس فقط عند المسلمين وحدهم، ولكن في اليهودية والمسيحية وفي الكثير من الديانات الوضعية، وهو أمر ليس عسيرًا على الباحث المتخصص، أو على من لديه قدر من الثقافة بالفرق والمذاهب والأديان، فالجماعات الإرهابية لم تكن يومًا وليدة الإسلام كما يشيع الكثير من المتطرفين أو المتشددين الذين يثيرون الشبهات حول ديننا الحنيف، فهناك فلسفات وديانات تعيش في حياة الناس هذه، عقيدتها الأساسية الدماء والتشفي والانتقام، سنذكر ذلك في حينه إن شاء الله في هذه السلسلة.
وما يعنينا الآن هو الإجابة علي التساؤل الأول؛ وهو كيف تجرأ هذا الشاب، الذي اعتدى على حرمة المسجد النبوي في شهر رمضان؟ وكيف يفعل مثله هذه الأفعال مع الأبرياء والمدنيين سواء في البلاد الإسلامية أو في غيرها؟
ورأيت أن أبدأ بهذه القصة الطريفة المؤلمة:
ذكر أحد السلف أنه كان يحج بيت الله الحرام، فالتقى أحد الخوارج عند الحجر الأسود، ودارت بينهما مناقشة طويلة انتهت بقول الخارجي: أترى كل هؤلاء الناس؟ فقال: نعم. قال: كلهم في النار إلا أنا وأنت!!. فرد عليه قائلا: جنة عرضها السموات والأرض ولا يدخلها إلا أنا وأنت؟! خُذْها لوحدك. وتركه وانصرف.
والحقيقة أن هذه القصة ليست للتندر بها ولكن للأسف الشديد هناك من عاش ويعيش بيننا يؤمن بذلك، ولم يقتصر التكفير على البشر فقط ولكنه تعداه إلى غيرهم من الكائنات حتى وجدنا يومًا من كَفَّر الذباب.
وقد ذكر الدكتور سعيد رسلان -وهو أحد أعداء الخوارج والجماعات المتطرفة- في خطبة له هذه القصة:
"كان اثنان من عُتاة التكفيريين وقد كفَّرا العالم كله، ولم يبقَ سواهما، كانا جالسين فأتى بعض الذباب فوقع على أرنبة أنف أحدهما أو غرس خرطومه في مُوقِ عينيه فتضرر منها فذَبَّه فعاد ـ والذباب إنما سمي ذبابًا؛ لأنه كلما ذُبَّ آبَ فهو ذباب ـ فلما تضايق منه وبلغ الضيق منه مبلغًا عظيمًا. قال لصاحبه: تعلم هذا الذباب كافر.
فقال له: كيف يكون كافرا وهو ليس بمكلف أصلا وليس له عقل، كيف يكون الذباب كافرًا؟!
قال: لأنه يؤذي المؤمنين، وكل الذي يستحل أن يؤذي المؤمنين فهو كافر.
قال: لا أوافقك على هذا.
فكفره لأنه لم يكفر الكافر! كفر الذباب فمن لم يكفر الذباب فهو كافر، للقاعدة الذهبية عند الخوارج في عصرنا وقبل عصرنا، من لم يكفر الكافر فهو كافر".
إذن فالخوارج يرون كفر كل من خالفهم في الرأي، وكل من لم يكفر من كفروه بتأويلاتهم وفهمهم لنصوص الشرع، التي ينزلونها في غير منازلها.
ولهذا فإن أول قاعدة لتجهيز منفذي العقل التكفيري، هو إعداده فكريا لقراءة النصوص الشرعية من منظور خاص، بعيدا عن مقاصد الوحي عن طريق إعطائه جرعات تراكمية توسع خياله لتقبل فكرة أنه وحده الذي يحمي الشرع ، ويدافع عن العقيدة، وأن ذلك لن يكون إلا بلزوم الجماعة- جماعة الخوارج- وهي ليست جماعة واحدة بل جماعات وجماعات تتوالد وتتكاثر ولم تقم لهم دولة في يوم من الأيام.
وفي ذلك يقول الإمام وهب بن منبه المتوفى في عام ١١٤ هـ:
"ألا ترى يا ذا خولان أني قد أدركت صدر الإسلام فوالله ما كانت للخوارج جماعة قط إلا فرقها الله على شر حالاتهم، وما أظهر أحد منهم رأيه قط إلا ضرب الله عنقه، وما اجتمعت الأمة على رجل قط من الخوارج، ولو أمكن الله الخوارج من رأيهم لفسدت الأرض، وقطعت السبل، وقطع الحج من بيت الله الحرام، وإذن لعاد أمر الإسلام جاهلية حتى يعود الناس يستغيثون برءوس الجبال، كما كانوا في الجاهلية وإذن لقام أكثر من 10 أو 20 رجلا ليس منهم رجل إلا وهو يدعو إلى نفسه بالخلافة، ومع كل رجل منهم أكثر من 10 آلاف يقاتل بعضهم بعضًا، ويشهد بعضهم على بعض بالكفر حتى يصبح الرجل المؤمن خائفا على نفسه ودينه ودمه وأهله وماله لا يدري أين يسلك أو مع من يكون".
(انظر: عبد السَّلام بن برجس آل عبدالكريم، مناصحة الإمام وهب بن مُنبِّه لرجلٍ تأثَّر بمذهبِ الخوارج).
الحلقة المقبلة -إن شاء الله- نبدأ رحلتنا مع صناعة منفذي العمليات التكفيرية.