تمثل ليلة الخامس عشر من يوليو ٢٠١٦ تاريخًا فاصلًا بالنسبة للدولة التركية رئيسًا وشعبًا وجيشًا وتجربةً كان البعض يعول على نجاحها واستنساخها فى دول الربيع العربى، لا سيما جماعات الإسلام السياسى.. ببساطة لقد انفجرت بالونة أردوغان الفارغة فى الجميع، ولم يكن هذا الانفجار مفاجئًا للجميع، وخاصةً للمتابعين للشأن التركى المأزوم فى الفترة التى أعقبت انهيار قطع الدومينو الإخوانية فى تونس ومصر وسوريا والسودان.. أمصار وولايات الخلافة الأردوغانية المزعومة للخليفة الواهم رجب طيب أردوغان.
لقد يمم أردوغان وجهه قِبَلَ المشرق، لاستعادة الخلافة العثمانية التى انهارت فى عام ١٩٢٤، ولم تجد من يأسى عليها سوى نشوء جماعة الإخوان المسلمين على يد حسن البنا عام ١٩٢٨ والمطالبة بعودة الخلافة التى لم تذق مصر والبلاد العربية من ورائها سوى الفقر والجهل والجوع وتجريف الكفاءات المصرية فى كل المجالات إلى الأستانة ليشيدوا دولة الخلافة. ورأى أردوغان فى أوهام الجماعة القديمة متنفسًا له للزعامة، وأن يعود خليفةً للمسلمين وتعود تركيا دولةً للخلافة، بدلًا من أن تكون مجرد دولة عضو فى الاتحاد الأوروبى التى حفيت قدماه من أجل أن ينال رضاه، إلا أن جهوده ذهبت هباءً منثورًا. ليلة ١٥ يوليو الماضى لم تكن ليلةً عادية من الليالى الجميلة فى أحضان البوسفور فى سهرة ليلة صيفٍ رائعة، بل كانت ليلة سقط فيها كل شىء فى الدولة التركية المتداعية، سقطت فيها أحلام أردوغان فى إعادة الخلافة الإسلامية فى العام ٢٠٢٤ بمناسبة مرور ١٠٠ عام على غياب شمس الإمبراطورية العثمانية؛ لا تدعوا سُعار أردوغان عقب المحاولة الانقلابية يدخل فى روعكم أنه الرجل القوى فى تركيا، بل إنه الرجل الضعيف المرتعش الذى سينظر خلفه كلما مضى فى طريق، سيتحسس مسدسه كلما كان فى مكان يفتقد فيه إلى الأمان، سيراجع خلفيات حرسه الشخصى الذين سيتشكك فيهم، سيؤمن موكبه الرئاسى فى الأرض وفى السماء بشكلٍ يعكس خوفه من المجهول.. لقد سقط أردوغان فى دوامة الخوف من الانقلاب عليه مثله مثل رئيس أية دولة فى القرن الإفريقى أو فى أمريكا اللاتينية، ولم لا وتركيا لها تاريخ طويل فى الانقلابات، لم يكن ما حدث أولها ولن يكون آخرها. أسوأ ما حدث فى تلك الليلة التى ستطارد أردوغان فى كوابيسه – إن استطاع أن ينام بعد تلك الليلة – انقسام تركيا بفضله ما بين مؤيد لما حدث وبين من هو معارض له، لا تصدقوا أن الجيش فقط أو جناحًا منه هو الذى كان مشاركًا فى الانقلاب، فإذا كان هذا هو ما حدث، فلماذا قام أردوغان بعزل مئات القضاة؟، ولماذا يقوم أردوغان بفصل كل هؤلاء العسكريين؟، ولماذا يُخضع مؤسسات الدولة للبحث والتحرى عمن يدعمون ما حدث فى تلك الليلة؟. لا شك أن «الانقلاب» لم يكن عسكريًا فقط، بل كانت له جذوره الشعبية والمؤسساتية التى يحاول أردوغان الآن اجتثاثها، لأنه يعلم جيدًا أن الانقلاب الفاشل لا بد أن يعقبه آخر ناجح فى ظل حالة القلق وعدم الاستقرار التى دخلتها تركيا بعد ١٥ يوليو، والدليل على ذلك طلب أردوغان من أنصاره عدم مغادرة الشوارع لاحتمال القيام بمحاولة أخرى للانقلاب على ديمقراطيته المزعومة، وقيامه بإعلان حالة الطوارئ فى إسطنبول الإثنين الماضى وإصدار الأوامر بقصف أية مروحية تحلق دون إذن فى أجواء المدينة.
ليلة ١٥ يوليو كانت ليلة سوداء داكنة فى تاريخ الجيش التركى والعسكرية التركية لن يمحو أثرها إلا رحيل أردوغان على يد هذا الجيش، لقد أُهينت هيبة العسكرية التركية إهانة بالغة لم تتلقها منذ عصر الإمبراطورية التى حققها هذا الجيش بدمائه وتضحياته، إياكم أن تتصوروا تشبيه أردوغان لمن حاولوا إزاحته عن الحكم لإضراره بالهوية التركية بالإرهابيين، بل من تصدوا للجيش فى الشوارع والطرقات هم الإرهابيون الحقيقيون الذين آواهم أردوغان من داعش والإخوان والذين يتلقون تدريباتهم العسكرية فى تركيا قبل الالتحاق بميادين القتال فى سوريا والعراق وليبيا واليمن، وما فعله هؤلاء الإرهابيون هو ردٌ للجميل لحليفهم التركى وخليفتهم المُنتظر، ولن ينسي الجيش التركى إذلاله على يد هؤلاء الإرهابيين وزعيمهم، بعد ما لطخ أردوغان الزى العسكرى التركى فى أوحال الإرهاب الذى إن حماه اليوم فلن يحميه إلى الأبد. ومن الناحية الاقتصادية، هوت الليرة التركية إلى أقل معدل لها فى ثمانى سنوات أثناء أحداث ١٥ يوليو، وهى مرشحة لمزيد من الخسائر، علاوة على أن السياحة الروسية التى كانت قد بدأت بالفعل من خلال تنظيم عدة رحلات إلى أنطاليا، انحسرت مرةً أخرى بإرسال روسيا طائراتها لإجلاء السياح الروس من هناك، لاعتبار روسيا تركيا دولة غير مستقرة، وفى مثل هذه الأحوال يحجم الاستثمار عن الذهاب إلى دولة ذات مناخ غير مستقر لأن رأس المال جبان لا يذهب إلى مثل هذه البلدان. الأسوأ فى تركيا لم يأتِ بعد.. ويجب ألا يشكو من يحرق أصابعه بالنار إذا كان قد أدمن اللعب بها، وليعلم أردوغان أن «المتغطى بالإرهاب عريان»، وأن الإرهابيين من دواعش وإخوان إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة.. وسوريا والعراق وليبيا واليمن ليست عنا ببعيد، وتركيا للأسف تحت حكم ذلك الأرعن ستسقط على أيديهم عما قريب.