سبعة أيام عشتها فى الصعيد، كنت أتصور أنها ستكون قادرة على فصلى تماما عما يحدث فى القاهرة.. إعلامها وصحافتها ومشكلات نجومها فى الفن والكرة والسياسة، لكن شيئا من هذا لم يحدث.
كل اتصال تليفونى، ورسالة تهنئة بالعيد، يعقبها سؤال «إيه الدنيا؟».. ولما كانت دنياى قد شبعت من الشوشرة.. استرحت تمامًا لفكرة السفر والهرب مما يحدث حولى منذ عام ويزيد.. لكن الحر الصعيدى وحده لم يستطع أن يفصلنى.. وإن كنت قد حاولت استخدامه مبررًا لقطع أى حوار مع الذين حاولوا جرجرتى لعالم مزدحم بالمواجع والمشكلات.. وكنت فى كل مرة أجيب عن سؤال «إيه الدنيا؟».. بـ«الدنيا حر».
لكن أهلنا هناك لم يتركوا لى هذه الحجة.. لم يستطع الحر أن يأخذهم مما يحدث لهم وحولهم.. لقد حولهم الحر رغمًا عن أنوفهم إلى مستهلكين جبرا لكهرباء لا يطيقون أسعارها الجديدة.. وفتحت الأرض الشراقى أفواهها تطلب المدد.. لكن «الرى» لا يسعفهم.. والأسعار الجديدة للحوم.. والأرز.. والسكر والزيت والفصول البايخة التى تمارسها إدارات النجومية لم ترحمهم.
الحكومة متهمة فى كل الأحوال، هذا ما تعودت عليه.. لكن حالة من الرضا وصلت إلى نساء وأسر كبيرة تجاه السيدة غادة والى.. تكاد تكون الوزيرة الوحيدة التى يجمع أهلنا فى الريف على نشاطها.. فقد وصلت بالفعل نتائج مشروع «تكافل» لعدد كبير من «الغلابة».. ورغم أن المبلغ الذى يحصلون عليه هو ثمن «ثلاثة كيلو لحمة».. لكنه إنجاز فى نظر الكثيرين منهم.. فى مقابل حالة غضب ضد وزراء ومحافظين آخرين، فى مقدمتهم وزير الرى.. عدد كبير من المزارعين يئس من فكرة مخاطبته، أو مخاطبة النقابات المعنية بالفلاحين.. ووجه هؤلاء الغاضبون ثورتهم وضيقهم إلى «نواب مجلس الشعب».. واعتبروهم «وجه الحكومة» الوحيد الذى يعرفونه.. فلا أمل لديهم الآن سوى أن تصل أصواتهم للحكومة عبر البرلمان وعبر هؤلاء النواب.. رغم تحفظهم المبدئى بأنهم لا يملكون من أمرهم شيئا.. وما زالت أصداء ما جرى فى امتحانات الثانوية العامة تسيطر على جميع المجالس.. مثلها بالضبط مثل حال السفر والهجرة لبلاد خلق الله..
الصعايدة يبحثون الآن عن فرص عمل فى بلاد لم تكن تخطر على بالهم من قبل.. أوكرانيا.. إيطاليا.. الصين.. لقد فقدوا الأمل فى أن تستقر الأحوال فى ليبيا.. أو أن يعود الخليج العربى إلى سابق عهده.. وأصابهم الشلل الذى أصاب قطاع «العقارات» بخيبة أمل شديدة.. فذهب عدد كبير منهم - المقاولين الأهليين - للبحث عن فرص فى بلاد بعيدة لم تكن فى جداولهم من قبل.
الغريب أن أسعار أراضى البناء وصلت إلى معدلات مستقرة فى قرى سوهاج.. متر الأرض فى القرى تعدى الخمسة آلاف جنيه.. والعشرين ألفا فى المدينة.. وتخطت الشقة حاجز المليون فى بعض الأماكن.
أحداث مسلسلات رمضان -وأشهرها طبعًا بالنسبة لهم «يونس ولد فضة»- لم تستطع أن تسرقهم من همومهم اليومية.. عدد كبير من الشباب فى مراحل التعليم المختلفة لا ينتظر فكرة تخرجه سواء من الجامعة أو الدبلومات.. وبدأ البحث عن فرصة عمل، حتى لو اضطر وترك التعليم، «ما هو إيه فايدته بعد الغلب ده كله»، وسافر إلى أى دولة.. جميعهم يبحث عبر الإنترنت عن هذه الوظائف والأماكن الموعودة.. الغريب أنهم يتحدثون أيضا عن جزر فى الأرجنتين مثلاً.. والغريب أنهم لا يملكون أموالاً لدفع قيمة التأشيرة.. لكنهم يحلمون ويبحثون.. ثم يمارسون عادتهم اليومية فى الشكوى من «الحر».
شغلتهم مؤقتًا أحداث قضية حسام حسن.. واللعبة المجنونة «البوكيمون».. وإعلانات المنتجعات المستفزة.. والفيلات أم جناين.. لكنهم تعاملوا مع كل ذلك بأنه يحدث فى بلد لا تعنيهم.. لا يعرفونها.. عالم يشاهدونه كما يشاهدون مباريات «البلاى ستيشن».. عالم افتراضى مثل تلك المباريات الافتراضية التى يلعبونها بعض الوقت.
حالة لا أستطيع توصيفها بـ«الخنقة»، أو «الملل»، أو «الزهق».. لكنه شعور عام انتابنى فى كل مقابلات العيد.. حالة من «الشوشرة» انتقلت إلى أذهانهم مثلما سيطرت على رأسى هنا فى القاهرة.
وبالمناسبة.. وصل سعر تذكرة القطار إلى ١٦٠ جنيها، فى قطار سماه وزير النقل ورجاله الـvip مع أنه لا يزيد على مثيله القديم «الفاخر».. أى شىء، لا خدمة جديدة ولا يحزنون.. وتذاكره رغم ذلك تباع فى السوق السوداء.. ولم تفلح حجة البطاقة الشخصية التى زعم الوزير تطبيقها فى حل الأزمة.. واستغل سائقو الميكروباص الأمر ورفعوا أسعارهم إلى مائة جنيه للفرد.. فى مقابل ١٢٠ جنيها لـ«السوبر جيت».. حتى سائقو التوك توك رفعوا أسعارهم أيضا.
حر الصعيد.. أهون بكثير من «حر الأسعار».. حر الصعيد حرق أوراق الشجر.. لكن حر الأسعار حرق قلوب الناس التى لا تملك دخلاً تستطيع التعامل مع هذه الطفرة.. فلا المحاصيل «جابت»... ولا الخارج بقت.. ولا الوظايف تستطيع أن تقمع هذا الغول.. هذه هى الدنيا التى يعيشها أهل يونس.. فإيه بقى.. إيه الدنيا؟!