إن إغفال أى حاسة من حواسنا.. هو إقفال باب من أبواب المعرفة.. إن المعرفة البشرية لا تدخل إلينا من باب العقل وحده.. إنما تتسرب إلينا من كل مسام جلدنا وجسدنا وذهننا وروحنا ووعينا الظاهر والباطن.. فمن كان يتوق حقًا إلى المعرفة الكاملة والحقيقة العظمى فليفتح لها كل الأبواب والنوافذ.
عبارات مضيئة، تتغلغل فى العمق، تشرق فى الداخل، تجدد خلايا الروح، تعلن ثورتها على العتم، وهى مقتطفات من مجموعة رسائل بليغة باللغة الفرنسية، كتبها «توفيق الحكيم» إلى صديقه فى باريس «مسيو أندريه»، والتى نشرت بالكامل فى كتابه «زهرة العمر».
تفيض رسائله أفكارًا بل أشعارًا وألحانًا أكثر عذوبة، وتثير أحاسيس بل شموسًا ونجومًا أكثر توهجًا، تكشف لنا عن تفاصيل عوالمه الداخلية المدهشة وغير العادية، والتى اخترت منها هذه اللقطات البديعة فى مواضع وسياقات مختلفة:
(إنى فى حاجة إلى أن يدق القلب دقتين أو ثلاثًا ثم يقف، لدينا ساعة كبيرة فى ردهة الطابق الأسفل، جئت من أوروبا، فوجدتها، وقيل لى إنها مشتراة فى مزاد عام منذ ثلاثة أعوام، ساعة سليمة دقيقة، تسير على خير ما تكون الدقة والضبط، ولم تعرف قط يومًا الوقوف ولا التأخير، وإذا بها ذات يوم وقد وقفت فجأة، فدهش لذلك أهل البيت، وهاجوا، وماجوا، وجعل كل يقترح أمرًا لإصلاحها، فحاولت أنا إصلاحها، فلم تصلح، وسمع والدى بأمرها، فنزل من حجرته إليها، يعالجها باللين، فلم تصلح، فطلب مطرقة، وجعل يدق بعض ما فى هيكلها من مسامير، ويفك بعض ما فى جوفها من تروس، فلم يظفر بطائل، فتركها آخر الأمر، وتركناها يائسين، وإذا بها ذات ليلة تدق فى جوف الليل، من تلقاء نفسها، والكل نيام، دقتين أو ثلاثًا، فى ذلك السكون التام، ومنذ تلك اللحظة سارت، ولا يدرى غير الله ما وقّفها وما سيّرها!.. ترى بعد موت طويل يستطيع القلب أن يدق دقتين أو ثلاثًا، يعقبها البعث والحياة ؟!).
(ذهبت أمس «الأحد» إلى «متحف اللوڤر» كعادتى، إنى أخصص يومًا كاملاً للقاعة الواحدة، إنى أبحث أمام كل لوحة عن سر اختيار هذه الألوان دون تلك، وعن مواطن برودتها وحرارتها، وعن رسم أشخاصها، وبروز أخلاقهم، واتساق جموعهم وحركتهم وسكونهم، كل لوحة فى الحقيقة ليست إلا قصة تمثيلية داخل إطار، لا داخل مسرح، تقوم فيها الألوان مقام الحوار، إن طريقة إبراز كل هذه الحياة بالريشة لقريب من طريقة إبرازها بالقلم، إن أساس العمل واحد فيهما: الملاحظة، والإحساس، ثم التعبير بالرسم، والتلوين).
(غرقت طوال يومى فى قاعة «الفن الإغريقى»، متنقلاً بين تماثيل «بالاس» و«أبولون» و«ڤينوس» فى أوضاعها المختلفة، آه يا أندريه.. إن فن «الإغريق» هو تجميل الطبيعة إلى حد إشعارها بنقصها، لكأنهم يريدون أن يقولوا للطبيعة: انظرى.. كان ينبغى أن تصنعى هكذا!، لقد مضى أكثر النهار، فدلفت إلى قاعة «الفن المصرى القديم»، ما كدت أتخطى العتبة حتى شعرت بفرق عجيب، إنه عالم آخر، إن فن «مصر القديمة» هو تحد صارخ للطبيعة، لكأنهم يقولون للطبيعة: انظرى.. لا شأن لنا بك، ولا بمخلوقاتك، إننا نستطيع من مخيلتنا ومن تفكيرنا أن نخرج مخلوقات أخرى غريبة وعجيبة، لم تخطر لك على بال).
(مازلت أردد كل يوم فى أعماق نفسى، كلما خلوت إليها، السيمفونيات رقم ٥ و٦ و٤ و٩ بكل تفاصيلها، إنى أصبحت آلف «بيتهوڤن» إلى درجة يخيل إلىّ معها أنى فهمت سر كتابته وتأليفه، مع جهلى المطبق بالموسيقى، إن أذنى لا تستطيع الآن أن تخدع فى أسلوب «بيتهوڤن» بين مئات الأساليب لمئات الموسيقيين، إن قدرة «بيتهوڤن» فى البناء الصوتى، تكاد تفتح أمام ذهنى أسرار كل بناء فنى آخر، بل أسرار البناء فى الطبيعة نفسها).
(آه يا أندريه.. لماذا لم أتعلم الموسيقى فى صغرى؟!.. إنى خلقت لأعيش كل حياتى فى عالم الأصوات وحده، إنى أصغى إلى الموسيقى لا للفائدة، ولا للاطلاع، ولا حتى للحاجة الفكرية، أو السمو الروحى، إنما للحياة نفسها، إنى أعيش بين أنغامها كما تعيش النحلة بين ألوان الأزهار، إن الجمال الذى ينبعث من تناسقها الفنى، تدركه فى نفسى أداة أدق من الفكر الواعى).
يذكر أن «الحكيم» فى أواخر أيامه، حين قرأ أن بعض لاعبى كرة القدم دون العشرين، يقبضون ملايين الجنيهات، قال: (انتهى عصر القلم، وبدأ عصر القدم، لقد أخذ هذا اللاعب فى سنة واحدة، ما لم يأخذه كل أدباء مصر من أيام إخناتون!).