توقفت كثيرا أمام تعبير النائب جلال عوارة، عضو لجنة تقصى الحقائق فى فساد توريد القمح، بأن اللجنة كشفت أكبر عملية فساد فى مصر خلال العصر الحديث، وسألت وهل مصر تحتمل مثل تلك القضايا فى ظروفها الحالية؟ .. ألم يكن رأس الذئب الطائر أو بمعنى آخر تقديم وزير الزراعة السابق وتغيير حكومة «محلب» النشيط، رادعًا لإيقاف الفساد ذي النفوذ المبنى على «علاقة محرمة» بين الحكومة وأباطرة الفساد؟ أم أن المثل المصرى الدارج «لو خرب بيت أبوك خدلك منه قالب» أصبح هو شعار كثير من المسئولين والموظفين الكبار فى الدولة.
لا يكشف فساد الصوامع عن غياب الذمم فقط، بل عن انهيار منظومة قيم كاملة لدى قطاع واسع من موظفى الدولة ورجال الأعمال، بالإضافة إلى موردى القمح، فما كشفت عنه لجنة تقصى الحقائق البرلمانية أمر مخزٍ ومؤسف أن تصل نسبة الفساد بالصوامع إلى ٥٠٪ بتكلفة تصل إلى ٤ مليارات جنيه على أقل تقدير .. ناهيك أن يحدث ذلك فى دولة تحارب من أجل البقاء، ذلك هو الخطر الداخلى الحقيقى الذى يهدد مصر.. فالفساد أقوى من الإرهاب، وتأثيره على المجتمع أكثر عنفًا، لأنه يهدد تماسكه ويقتل مصداقية أداء الدولة فى مقتل.
لدى الأجهزة الرقابية والبرلمان تصور كامل للفضيحة التى ستلاحق الحكومة الأيام القادمة، فما تكشف عنه القضية يضع المهندس شريف إسماعيل فى حرج أمام الرأى العام، وأمام القيادة السياسية التى أمرت بفتح تحقيق عاجل فى «الفضيحة»، فكيف تم كل ذلك دون تحرك لوقف التلاعب بأموال الشعب؟، فبحسب تقرير اللجنة التى زارت عددًا من الصوامع وجد نواب الشعب أن الصوامع الحكومية غير مستغلة لصالح الصوامع الخاصة التى يمتلكها أباطرة تجارة القمح فى مصر، بالإضافة إلى خلط القمح المحلى بالمستورد وتوريده للحكومة على أنه قمح محلى، وهو ما مثل ضغطًا إعلاميًا شديدًا على الحكومة خلال الفترة الماضية ودفعها إلى شراء كل الكميات التى قيل إنها إنتاج محلى، ليتضاعف المال الحرام فى جيوب «مافيا القمح»، دون وازع من ضمير.
اكتشفت اللجنة أن مصر ليست لديها طوال السنوات الماضية منظومة متكاملة للتعامل مع القمح، وإنما منظومة فساد تهدر فيها مليارات الجنيهات من المال العام، فكل الصوامع التى قامت اللجنة بزيارتها كما لو أن بينها اتفاقًا على أن يدرج بها ٥٠٪ فى الدفاتر فقط غير موجودة على أرض الواقع، حتى أن إحدى تلك الصوامع الحكومية من المفترض أنها قادرة على استيعاب ٣٠ ألف طن، لم نجد بها سوى ٣ آلاف طن فقط، وتم التعاقد مع صوامع من القطاع الخاص ملاصقة لها، وبحسب نتائج تحليل أقماح صوامع القليوبية، جاءت النتيجة أن من بين ٢٥ إلى ٣٠٪ منها أقماحًا مستوردة تم خلطها بالقمح المحلى، للاستفادة من فارق السعر بين المحلى والمستورد، فالآن يقوم المستوردون بخلط الأقماح المستوردة بالقمح المحلى لبيعه لوزارة التموين للاستفادة من فارق السعر.
لقد انتهز كثير من أباطرة تجارة القمح فى السوق المصرية تعهد الدولة باستلام القمح من المزارعين، بأعلى من السعر العالمى، واستغلوا الضغط الإعلامى على الدولة، والذى انتهى بقبول الدولة لكل كميات القمح ، المزروع محليا والمستورد، بأكثر من السعر العالمى، ولم ينته الأمر عند هذا الحد، بل وردوا أقل من الكميات المسجلة، ويقال إن هناك توريدًا تم على الورق فقط، بمعنى أنهم لم يسلموا قمحا من الأساس، وحصلوا على مقابلها فى تواطؤ فاجر من موظفى الصوامع الذين تم القبض على بعضهم.
التقرير البرلمانى زاخر بمعلومات وشهادات لبعثة تقصى الحقائق تجعل السجن عقابًا مخففًا على هؤلاء، بل إنهم يستحقون ما هو أشد على أثر ما اقترفوه فى حق الشعب والدولة التى تحاول بكل طاقتها النجاة مما يحيط بها من أخطار .. لكن يبدو أن الفساد لا يعترف لا بالإصلاح السياسى ولا بالإصلاح الاقتصادى، وأن دولته ما زالت قوية وتحتاج لقرارات أبعد وأوسع وأعمق.
ننتظر محاكمة برلمانية وجنائية وشعبية عاجلة لكل المتورطين فى القضية وجهدًا أكبر فى مكافحة الفساد بجميع أشكاله وصوره.