وسط تلك العتمة وانعدام الرؤية للحاضر والمستقبل وتفشى كل أنواع الفساد من رأس هرم الدولة إلى قاعدته،، يظهر لنا - كأنه نشاز - بصيص أمل مضىء من داخل هذا الهرم الفاسد.
وطوال الأيام والأسابيع والأشهر الماضية، كانت الرقابة الإدارية هي نجم الليلة المشبعة بالسواد، واحتلت أخبار ضباط مكافحة الفساد داخل أجهزة الدولة، صدر الصفحات الأولى وصفحات الحوادث في الجرائد المحلية وحتى العربية، ناهيك عن عشرات المواقع الإلكترونية وصفحات التواصل الاجتماعى.
قبل أيام قليلة دخلت الرقابة الإدارية معقل وزارة الداخلية وقامت بالقبض على مدير أمن ديوان محافظة القاهرة متلبسًا بتقاضى رشوة ٥٠ ألف جنيه رشوة مقابل تسهيل خدمات لأحد المواطنين.
وخلال الخمسة أشهر الماضية تمكنت هيئة الرقابة الإدارية من ضبط ما يقرب من ٥٣٠ جريمة متنوعة ما بين الاختلاس والاستيلاء وتسهيل الاستيلاء على المال العام والتربح واستغلال النفوذ وجرائم التزوير في المحررات الرسمية وجرائم الكسب غير المشروع وغسل الأموال وجرائم التموين، علاوة على تحصيل مليارات الجنيهات من مستحقات الدولة. وقامت الرقابة الإدارية بمعاونة الجهاز الحكومى والهيئات العامة وقطاع الأعمال العام في التحرى عن شاغلى وظائف الإدارة العليا، وبلغ عدد من تم التحرى عنهم خلال هذه الفترة ما يقرب من ٩٨٠ موظفًا، لكن القانون للأسف منح الهيئة سلطة التحرى عن شاغلى التعيينات فقط، وهو ما يكبل عمل الهيئة في التحرى عن الشخصيات الذين ينتدبون من جهة إلى جهة أخرى، والذين يعملون كمستشارين لدى بعض الوزارات. ومن أبرز الجرائم التي ضبطتها هيئة الرقابة الإدارية خلال الشهور الماضية، ضبط الدكتور أحمد عزيز مستشار وزير الصحة لأمانة المراكز الطبية متلبسًا داخل ديوان الوزارة بجريمة رشوة قدرها ٤.٥ مليون جنيه، من شركة وكيلة لإحدى الشركات الأوروبية.
كما كشفت تحريات الإدارة العامة لمباحث الأموال العامة، اختلاس مدير مطبعة وزارة الصحة و٤ عمال لـ١٩١ طن ورق خام متنوع من المطبعة وبيعها، والاستيلاء على قيمتها التي بلغت ٢ مليون و١٠٠ ألف جنيه.
كما كشفت هيئة الرقابة الإدارية وقائع فساد في «التأمين الصحى».. وبلغت قيمة ما تم الكشف عنه فقط ٤ ملايين جنيه تقريبًا.
وفى التربية والتعليم كشف ضباط الرقابة الإدارية قضية اختلاس تقدر بربع مليار جنيه، وتم إحالة المسئولين للنيابة.
وتمكنت الهيئة من توجيه ضربة لعصابة تخصصت في الاستيلاء على أموال الموازنة العامة،، وكشفت هيئة الرقابة الإدارية تحقيق المتهمة كسبًا غير مشروع يتمثل في ممتلكات عقارية ومنقولة وإيداعات بنكية ومبالغ سائلة تتعدى قيمتها ١٠٠ مليون جنيه.
كما كشفت هيئة الرقابة الإدارية، قضية رشوة كبرى بالهيئة القومية للأنفاق، بعدما ألقت القبض على المسئول الأول عن جميع تعاقدات مشروعات المترو الجديدة.
وفى وزارة الزراعة التي شهدت سقوط وزيرها السابق على يد ضباط الرقابة، تمكنت هيئة الرقابة الإدارية من ضبط كبير باحثين طلب مبلغ ربع مليون جنيه على سبيل الرشوة من رئيس مجلس إدارة إحدى شركات الأعلاف مقابل تخفيض الفوائد المستحقة على الشركة.
وفى وزارة الاستثمار قامت هيئة الرقابة الإدارية بضبط مدير المكتب الفنى لوزير الاستثمار السابق، بعد حصوله على مبالغ كبيرة على سبيل الرشوة من مُستثمرين، ورجال أعمال مصريين وأجانب مُتعاملين مع وزارة الاستثمار، نظير إنهاء مصالحهم.
وفى الشباب والرياضة تمكنت الرقابة الإدارية من إلقاء القبض على مدير عام متابعة تنفيذ الأعمال الهندسية بالوزارة.
وفى وزارة الكهرباء ألقت هيئة الرقابة الإدارية القبض على نائب رئيس شركة جنوب القاهرة لتوزيع الكهرباء، وآخرين، بعد حصولهم على رشوة مليون ونصف المليون جنيه.
وقد كشف ضباط الرقابة خلال السنوات الماضية آلاف القضايا، وأعادوا للدولة ١١ مليار جنيه، استولى عليها فاسدون ما بين ٢٥ يناير ٢٠١١ حتى إبريل ٢٠١٤.
وتاريخ تلك الهيئة يصلح لعمل درامى من الطراز الأول، ففى كل عهد يبدأ الرئيس بالحديث عن طهارة اليد ومكافحة الفساد،، ويبرز دور الهيئة ويتسع دورها ويكشف الضباط كل يوم بل كل ساعة قضايا جديدة،، ثم تبدأ مرحلة أخرى بأوامر رئاسية أيضًا لتقليص نشاط الهيئة، ويبدأ الحديث عن خوف المستثمرين وباقى الأسطوانة إياها،، وهكذا وكأنها دورة محسوبة بالقلم والمسطرة.
ويحكى بعضا من فصول التاريخ الدرامى للهيئة، الدكتور ياسر ثابت في دراسته المنشورة في سبتمبر من العام الماضى بصحيفة «الصباح » أنه منذ تأسيسها كان اختيار أعضاء الرقابة الإدارية من ضباط القوات المسلحة أولًا وثانيـًا وبعدها من ضباط الشرطة، لكنهم في الأغلب يتركون العسكرية في سنوات خدمتهم الأولى، ويتم انتقاؤهم وندبهم للعمل بها. وبالتوازى جاء كل رؤساء الهيئة السبعة منذ ١٩٥٨ وحتى ٢٠١٥ من ضباط القوات المسلحة وجهاز المخابرات سواء الحربية أو العامة.
أسس الزعيم الراحل جمال عبدالنّاصر الرقابة الإدارية وكلف الضابط المقرب منه سامى شرف بتكوين هذا الجهاز الرقابى الخطير، وبالفعل تشكل في بدايته من عشرين ضابطـًا من الضباط الأحرار باسم «هيئة مراقبة الإدارة الحكومية».. واتسع مجال عمل الهيئة وهيكلها الإدارى بعد ذلك بقانونين صدرا في ١٩٦٤ و١٩٦٨.
أما الرئيس أنور السادات فلم يلتفت لهذا الجهاز إلا بعد أن فرغ من حرب أكتوبر ١٩٧٣ وبدخول مصر في التحول إلى الانفتاح الاقتصادى بدا واضحـًا أن هيئة الرقابة الإدارية المعنية بمكافحة الفساد لم تتوافق مع رؤية السادات جيدًا، وأصبحت إحدى العقبات التي تواجه التحول من اقتصاد الدولة للاقتصاد الحر.
نفد صبر السادات عندما بدأت الهيئة تحقيقات شهيرة عُرفت بقضية عصمت السادات ورشاد عثمان، وشملت أبناء شقيق السادات أيضـًا، فقرر نقل رئيس الهيئة كمال الغر، وكان أول من تولى المنصب، إلى المجالس القومية المتخصصة في نوفمبر ١٩٧٨، ثم حل الهيئة بعد عامين بقرار حمل صفة عدم الدستورية؛ إذ إن الهيئة أنشئت بقانون ولا يجوز حلها بقرار.
ويتذكر كل ضباط الرقابة الإدارية تلك الواقعة وما تلاها من شهور كنقطة سوداء خلفت في نفوس من بقى منهم مرارة لم تمحها السنوات، فتوزعت ملفات القضايا التي كانت بين أيديهم بين الشرطة العسكرية ومباحث أمن الدولة، وتولى فؤاد محيى الدين فرم كثير من القضايا والمستندات، ثم تحول الرجال الذين كان يهابهم المسئولون في أي قطاع من قطاعات الدولة إلى مبعدين، بعضهم بحث عن عمل وأغلبهم فضل التقاعد مبكرًا.
عقب اغتيال السادات استهل الرئيس حسنى مبارك حكمه بإصدار قرار في ٢٥ يونيو ١٩٨٢ أعاد تشكيل هيئة الرقابة الإدارية وعيَّن اللواء محمود عبدالله رئيسـًا لها، وكانت أولى القضايا التي فتحتها الرقابة الإدارية قضية رشاد عثمان وعصمت السادات وأبنائه، والتي انتهت إلى الحكم على الأخير بالسجن ومصادرة أملاكه وأملاك أبنائه.
إلا أن واقعة حل جهاز رقابى عالٍ مثل الرقابة الإدارية من رئيس وواقعة إعادته للعمل من رئيس آخر كشفتا بوضوح الحقيقة التي ظلت راسخة في عقول كثير من العاملين بالأجهزة الرقابية في مصر، ألا وهى أن بقاءها لا يرتبط بمدى ما تحققه من نجاح في مهامها الأساسية والاختصاصات المكلفة بها، وإنما تظل رهن الإرادة السياسية للرئيس أو الحاكم.
ظلت الهيئة تعانى من تبعيتها في القانون لرئيس الوزراء في حين أنها مكلفة بمراقبة السلطة التنفيذية، وهو الوضع الذي لم يتم تصويبه إلا بدستور ٢٠١٤، الذي نص لأول مرة على وجود الهيئة كجهة مستقلة.
شهدت ثمانينيات القرن العشرين تفجر قضايا فساد عدة، لكن العقد الثانى من حكمه سجل بداية انقلاب الرئيس الأسبق مبارك على حربه ضد الفساد ليحارب في صفه، وشرع يسن قوانين تغطى عمليات النهب المنظم، وفى نفس الوقت يسن قوانين أخرى كان من شأنها تكبيل عمل الأجهزة الرقابية ومنعها من ملاحقة الفساد وتتبعه، في ظل تنامى تزاوج السلطة مع المال ودخول عائلات كاملة من قطاع الأعمال عالم السياسة والحكم (بما في ذلك المناصب الوزارية)، وتصاعد منحنى الفساد بدءًا من التسعينيات حتى سقوط حكم مبارك عقب انتفاضة ٢٥ يناير ٢٠١١.
وشهد عهد الرئيس الإخوانجى محمد مرسي سلسلة من الإقالات لقيادات أجهزة الدولة لم تنج منها الرقابة الإدارية،، لكنها بدأت مرحلة أخرى من التعافى مع انتفاضة ٣٠ يونيو، نرجو لها أن تستمر وألا تعود لمرحلة الكمون بأوامر رئاسية مرة أخرى.