هناك تعطش شديد في العالم للتفاهم والاتصال، والعيش في أمن وسلام وسكينة، والتعامل الدولى العادل بالنسبة للقضايا الدولية الرئيسية التي هي سبب المشاكل والصراعات المسلحة وانتشار الإرهاب والفوضى والحروب. والعالم اليوم بات في مسيس الحاجة إلى إعادة بناء نفسه وطرح فلسفة جديدة في النظام الدولى، أساسها العدل والحق والسلام. فلم يعد مقبولًا أن تستمر الدول الغنية تستغل وتقهر الدول الفقيرة لأن هذا الوضع سيؤدى إلى العنف والإرهاب. كما لم يعد مقبولًا أن يتم التعامل الدولى بازدواجية المعايير بعيدًا عن الحق والعدل، كما يتم بالنسبة لقضية الصراع العربى الإسرائيلى. وأيضًا لم يعد مقبولًا أن تكون لغة الحرب هي وسيلة التفاهم وليس التفاوض والحوار. إن توازن المصالح وتكثيف الاعتماد المتبادل الاقتصادى والاجتماعى والسياسي هما أساس النظام الدولى الذي ينبغى أن يكون، وذلك لسببين: الأول: أنه مع تعدد وتشابك قضايا السياسة الخارجية ظهرت قضايا يصعب التعامل معها بالقدرة الذاتية لكل دولة أو بالقوة العسكرية، فهناك قضايا الطاقة، والغذاء، والأمن، والمناخ، والتصحر، وتلوث البيئة، والانفجار السكانى، والمجاعة، والأوبئة، واستعمال الفضاء الخارجى، والبحار، وغيرها من القضايا المتشابكة التي باتت تهدد كل دول العالم خاصةً الدول المتقدمة والغنية. الثانى: أنه في ظل توازن الرعب النووى وتشابك المصالح الدولية بل وتداخلها وتقاطعها تدهورت الأهمية النسبية للقوة العسكرية التقليدية وفوق التقليدية كأداة لتنفيذ السياسة الخارجية بصفة عامة التي تسعى لتحقيق مصالح الشعوب ورفع مستوى معيشتها. ففى العقدين الأخيرين من القرن الماضى كان الاتحاد السوفيتى قبل انهياره أحد قوتين عظميين في العالم، وهو صاحب مبادرة توازن المصالح بين الدول التي لم يكن لها أن تتحقق إلا في إطار التعادل النووى بين القوتين العظميين وقتها. ونظير ما طرحه جورباتشوف من مبادرة تحقيق توازن المصالح وليس توازن القوى وعدت الولايات المتحدة وبريطانيا وبعض الدول الأوروبية بتقديم دعم مالى (١٠٠ مليار دولار) للاتحاد السوفيتى للخروج من أزمته الحادة، وأيضًا تكثيف الاعتماد المتبادل الاقتصادى والاجتماعى بدلًا من الصراع والحرب الباردة بما يساعد على تحقيق السلام والأمن الدولى. وطلبت الدول الغربية من جورباتشوف العمل على تنفيذ بعض السياسات الرأسمالية والاتجاه إلى اقتصاد السوق ولو على استحياء، وتشجيع القطاع الخاص المشلول. ولكن لم تنفذ الولايات المتحدة والدول الأوروبية ما وعدت به جورباتشوف، فلم تقدم قيمة المنحة وهى (١٠٠ مليار دولار). وبدا أن المسألة كانت خداعا إستراتيجيا وطعما ابتلعه جورباتشوف، وكانت بداية سقوط الاتحاد السوفيتى وتفكيك جمهورياته إلى ١٥ دولة التي كان يتكون منها وعاصمتها موسكو. وأصبحت الجمهورية الروسية الحالية هي الوريث الشرعى للاتحاد السوفيتى حيث تتركز فيها القوة النووية الرئيسية والترسانة العسكرية الرهيبة والقوى الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والثقافية والحضارية الهائلة والكتلة السكانية الكبيرة، واستمرت موسكو هي العاصمة للدولة الروسية كما استمرت عضوًا دائمًا في مجلس الأمن ولها حق الفيتو. وواجهت الجمهورية الروسية العديد من المشكلات والأزمات والضغوط السياسية والاقتصادية والاجتماعية العنيفة، واستمرت الدولة الجديدة تقاوم هذه الأوضاع الصعبة حتى جاء الزعيم بوتين رئيسًا للدولة، وهو الذي كان يشغل قبل ذلك منصب رئيس جهاز المخابرات السوفيتية (كى.جى.بى)، وتمكن من قيادة السفينة الروسية وسط هذه العواصف والأعاصير الصعبة. حتى وصل بها إلى بر الأمان، ونجح في احتواء الأزمة الاقتصادية الحادة بجهد وصبر وحنكة، وعادت الجمهورية الروسية بقوة إلى الحلبة الدولية، وأصبح لها دور مؤثر في القضايا الدولية والإقليمية، وكلمة مسموعة ورأى يحترم. وكان بوتين على يقين بأنه لا يمكن أن يتحقق الوفاق الاقتصادى والاجتماعى بين الروس وأمريكا والغرب إلا إذا امتلكت الجمهورية الروسية أدوات ضغط سياسية واقتصادية وعسكرية. وأجبرت الغرب على أهمية التعاون والاعتماد المتبادل بما يحقق المصالح والمنافع المتبادلة. ولأن هذا يتوقف على درجة حساسية الفاعلين الدوليين. ونقصد بذلك سرعة هؤلاء الفاعلين على الاستجابة للمتغيرات الجديدة وقدراتهم على تحمل التكاليف الناشئة عن تلك المتغيرات في إطار السياسات الراهنة. لأنه إذا أحس أي طرف في النظام الدولى بقدرته على الاستغناء عن تلك المعاملات بالتحول إلى شريك آخر دون أن يتأثر نظامه الاقتصادى أو السياسي فقد يؤدى هذا الوضع إلى صغر حجم الاعتماد المتبادل، وهو أمر قد يعرقل الاستمرار في سياسة الوفاق. كما أن هذا الاعتماد المتبادل لا يتم إلا بين الدول العظمى التي لها مصالح ومنافع متبادلة، ولا يمكن أن يتم بين الدول العظمى والدول الفقيرة أو النامية. لأن الدول الفقيرة ليس لديها ما تقدمه للدول العظمى لتستفيد منه، حتى بالنسبة للدول العظمى فإنه إذا أحست أي دولة بأن مصلحتها أو منفعتها لا تستقيم ولا تتحقق مع طرف ما أو دولة ما فإنها توقف أي تعامل فورًا. وأيضًا إذا أحست الدولة بقدرتها على الاستغناء عن تلك المنفعة فإنها ستتحول فورًا إلى شريك آخر.. فطرة الذئاب التي لا أمان لها نجدها داخل النظام الدولى. والمثل الصارخ هنا أنه حدث توافق ومصالح بين الاتحاد السوفيتى القديم والولايات المتحدة الأمريكية، وتلاقى العملاقان بعد فترة طويلة من العداوة والبغضاء والمنافسة، ودخلت العلاقات السوفيتية الأمريكية مرحلة حوار ومصارحة ومكاشفة أساسها تحقيق توازن المصالح وليس توازن القوى، وبمجرد انهيار الاتحاد السوفيتى انتهى الأمر وتحول وريثه- ونقصد جمهورية روسيا- إلى عدو، وظهرت الصراعات والنزاعات واختلفت المعاملة والتوجهات والسياسات، بل وفرضت عقوبات اقتصادية «وعادت ريما إلى عادتها القديمة». إن السياسة لعبة قذرة ليست لها مبادئ ولا أخلاق ولا صداقات ولا تحترم كلمة الشرف والعهد والجوار، الشىء الوحيد الذي تعرفه هو المصلحة فقط. وإذا تركنا الوضع المتدهور الآن بين الروس والأمريكان فإن العالم يهتم اليوم بقضية الاعتماد المتبادل المكثف، بعد أن دخل الجنس البشرى مرحلة يعتمد فيها الكل بعضهم على بعض، بل أصبح الاعتماد ضرورة ملزمة وملحة خصوصًا بين الأنظمة الفاعلة في النظام الدولى. بعد أن عادت من جديد لغة الصراع ونغمة توازن القوى، واختفت إلى حد ما عبارة توازن المصالح. ويتجسد ذلك في النزاع المطروح الآن بين الروس والأمريكان بالنسبة لمشكلة أوكرنيا، وأيضًا الخلاف الحاد حول الوضع السورى المتأزم. لأن الذي يحدد شكل وحجم الاعتماد المتبادل داخل النظام الدولى مجموعة من العمليات الفرعية وبالتحديد حجم الاتصال الدولى، والأهمية النسبية لأدوات تنفيذ السياسة الخارجية، والتعامل الدولى بالنسبة للقضايا الدولية الرئيسية. هنا تطرح قضية مهمة جدًا صارت تعرف باسم الأمن الغذائى، فالوضع الغذائى في البلدان المتخلفة يتحدد في الواقع بالنمط الحالى لتقسيم العمل الدولى في الزراعة الذي يكرس الظلم والاستغلال، ولا يسعى إلى تكثيف الاعتماد المتبادل ولا الوفاق الاقتصادى والاجتماعى. فالبلدان المتخلفة وهى تمثل أكثر من ٧٥٪ من سكان العالم الرأسمالى لم تكن تمثل في الثمانينيات من القرن الماضى مع بداية بلورة الأزمة الغذائية إلا نحو ٣٧٪ من إنتاج الحبوب و٢٧٪ من إنتاج اللحوم و٢٠٪ من الإنتاج البروتينى في هذا العالم. وإضافة إلى ذلك فإنها تواجه عادة بالوضع التالى: وهو زيادة معدلات استهلاك الغذاء بأسرع من زيادة معدلات الإنتاج المحلى، وذلك بسبب غول الزيادة السكانية في هذه البلدان. ولذا تتحول البلاد المتخلفة وهى بلدان زراعية في الغالب إلى مستورد وخاصة الحبوب.
ويتم الاستيراد عندئذ وبصفة أساسية من السوق الغربية التي شهد منذ بداية الثمانينيات موجات متصاعدة من التضخم وأزمات اقتصادية أهمها أزمة الرهن العقارى الأمريكية عام ٢٠٠٨، وهى الأزمة التي طالت كل دول أوروبا. وقد تمثلت حدة أزمة المواد الغذائية في عدم كفاية الحبوب وارتفاع أسعارها، ومن المتوقع أن يصل العجز بالنسبة للحبوب وحدها إلى نحو ٤٥ مليون طن في عام ٢٠٢٠. في الوقت الذي تشير بعض الدراسات إلى أن الأراضى الصالحة للزراعة يمكنها بالمستوى الحالى للهندسة الزراعية أن توفر المنتجات الغذائية لنحو ٣٥١ مليار نسمة أي نحو خمسة أمثال عدد سكان العالم حاليًا. وحسب خبراء الزراعة والإحصاء، فإن مساحة الأراضى الزراعية في العالم لا تزيد على ٧، ٦٪ فقط من مجموع الأراضى الصالحة للزراعة، أي أن الموارد الغذائية المتاحة ما زالت تستخدم حتى الآن بشكل غير متناسق، ناهيك عن الموارد الغذائية الكامنة في البحار والمحيطات. وينتظر العالم نظاما دوليا جديدا أكثر عدلًا يتحقق من خلاله للإنسان الطعام والأمن من خلال زيادة حجم الاعتماد المتبادل الشريف بين الشمال والجنوب.. بين العالم الأول الغنى والعالم الثالث والرابع الفقير حتى يواجه العجز الخطير بالنسبة للحبوب والغذاء، ويتخلص من الوجيعة التي ألمت به، وقضت على طموحاته، ويفلت العالم من أزمة محققة في الغذاء وتهديد واضح للأمن على النحو الذي تم عرضه.
ويتم الاستيراد عندئذ وبصفة أساسية من السوق الغربية التي شهد منذ بداية الثمانينيات موجات متصاعدة من التضخم وأزمات اقتصادية أهمها أزمة الرهن العقارى الأمريكية عام ٢٠٠٨، وهى الأزمة التي طالت كل دول أوروبا. وقد تمثلت حدة أزمة المواد الغذائية في عدم كفاية الحبوب وارتفاع أسعارها، ومن المتوقع أن يصل العجز بالنسبة للحبوب وحدها إلى نحو ٤٥ مليون طن في عام ٢٠٢٠. في الوقت الذي تشير بعض الدراسات إلى أن الأراضى الصالحة للزراعة يمكنها بالمستوى الحالى للهندسة الزراعية أن توفر المنتجات الغذائية لنحو ٣٥١ مليار نسمة أي نحو خمسة أمثال عدد سكان العالم حاليًا. وحسب خبراء الزراعة والإحصاء، فإن مساحة الأراضى الزراعية في العالم لا تزيد على ٧، ٦٪ فقط من مجموع الأراضى الصالحة للزراعة، أي أن الموارد الغذائية المتاحة ما زالت تستخدم حتى الآن بشكل غير متناسق، ناهيك عن الموارد الغذائية الكامنة في البحار والمحيطات. وينتظر العالم نظاما دوليا جديدا أكثر عدلًا يتحقق من خلاله للإنسان الطعام والأمن من خلال زيادة حجم الاعتماد المتبادل الشريف بين الشمال والجنوب.. بين العالم الأول الغنى والعالم الثالث والرابع الفقير حتى يواجه العجز الخطير بالنسبة للحبوب والغذاء، ويتخلص من الوجيعة التي ألمت به، وقضت على طموحاته، ويفلت العالم من أزمة محققة في الغذاء وتهديد واضح للأمن على النحو الذي تم عرضه.