يحدث في مصر أن الدولة تبذل جهودًا كبيرة في محاربة الإرهابيين، ولكنها في الوقت نفسه لا تحارب الإرهاب، تواجه المتطرفين ولا تواجه التطرف، الجيش والشرطة يقومون بشن حروب ضخمة، ويتساقط الشهداء في سيناء تحديدًا بشكل شبه يومى في التفجيرات والمواجهات مع الجماعات الإرهابية التي ما زالت تنشأ وتتكاثر وتربى أبناءها على تكفير الدولة والشعب، والإخوان يربون أطفالهم الآن على ضرورة الأخذ بثأر من قتلوا في فض رابعة وأحداث مثل الحرس الجمهورى وغيرها.. فنحن إذن في انتظار جيل إخوانى أكثر شراسة ممن نواجه الآن.. أي أن الفكرة موجودة وباقية ولم يقض عليها.. الأشخاص يذهبون ويأتى غيرهم يسير في نفس الطريق المظلم لأن الفكرة لم تذهب بعد.
وإذا رجعنا لسنوات فسنجد أن متطرفى وإرهابيى اليوم.. كانوا أطفالًا بالأمس، نشأوا في تربة خصبة تدعم هذا الفكر بقوة وعلى غير استحياء.. فعندما أخرج السادات الجماعات الإسلامية من السجون، ومكنهم من النقابات والجامعات والمساجد، وكان شعار هذه المرحلة «إسلامية إسلامية» كانت الدولة تغذى وتدعم هذا الفكر بشكل واضح ومعلن، وتقدم لهم البلد على طبق من فضة ليبتلعوها.
وعندما جاء «مبارك» سلك نفس الطريق وزاد عليه أن مكنهم من تكوين إمبراطوريات اقتصادية في عهده وأصبحوا أصحاب مليارات ومشروعات كبري، ولم يفعل شيئًا لتحجيمهم أو منعهم من التوغل داخل مفاصل الدولة المصرية.. واحتلالهم للمساجد والجوامع والقنوات الفضائية التي كانوا يتسللون من خلالها لعقول الشباب، وحتى في فترة التسعينيات الشهيرة بالإرهاب فكانت الدولة أيضًا تحاربهم ولم تحارب فكرهم، حتى يستطيع النظام السياسي استخدام هذا الفكر وقت اللزوم.. وبالفعل ففى عهد مبارك استطاعت الجماعات الإسلامية من التمكن من عقول الناس وخاصة الفقراء والشباب في سن التكوين، وعاد شعار «الإسلام هو الحل» عام ٢٠٠٥ مع انتخابات البرلمان، وفاز الإخوان بـ ٨٨ مقعدًا في مجلس الشعب آنذاك.. كان مبارك يحترف هذه اللعبة ولعله استفاد من تجربة السادات معهم استفادة كبيرة فلم يلق مصيره بالقتل على أيديهم.
بعد ثورة يناير استخدمتهم السلطة الحاكمة في هذا الوقت من جديد، لتشويه ثوار يناير وجعل المشايخ من شباب الثورة «كفارًا وملحدين وماسونيين وعلمانيين».. وأخذ الناس يرددون هذه الاتهامات دون معرفة حتى معناها وخاصة ما أطلق عليهم «حزب الكنبة».. وصدق الناس أن هؤلاء ملحدون ويشجعون الزنا والشذوذ فهم غير أمناء على قيادة الدولة، وبالتالى أي مرشح محسوب على هذا التيار مرفوض.. ففى انتخابات البرلمان الأولى بعد الثورة دخلت في نقاش مع سائق تاكسى حول الانتخابات والمرشحين وعندما قلت له إننى انتخبت حزب «المصريين الأحرار» رد علىّ باندهاش شديد «معقولة يعنى حضرتك انتخبتى الناس اللى عايزين الرجالة يتجوزوا بعض».. كان اندهاشى أنا أكبر، وقد علمت مبكرًا في هذه اللحظة أن رئيس مصر القادم سيكون من خندق الإسلاميين.. وقد حدث.
في المقابل ارتفع سهم «الناس بتوع ربنا»، وكانت غزوة الصناديق ثم انتخابات البرلمان التي فاز فيها حزب الحرية والعدالة واكتسح أعضاؤه وأعضاء حزب النور السلفى البرلمان أكبر دليل على توغل الفكر المتطرف في عقول ونفوس المصريين، مما مكن الإخوان من الدولة بشكل رسمى ومباشر عندما تربعوا على حكم مصر، وفاز مرشحهم «محمد مرسي» في أول انتخابات رئاسية بعد ثورة يناير، صحيح أنهم لم يبقوا غير عام واحد فقط، ولكن فكرتهم ما زالت باقية.. أكثر من ٨٠ عامًا، وفكرة التطرف والإرهاب تنمو وتزدهر وتمتد.. ولم يوجد حتى الآن نظام يستهدف الفكرة نفسها.. المواجهة الأمنية هي مواجهة للأشخاص فقط بل وتخلق الثأر وروح الانتقام، وأيضًا الإصرار على الجهاد في نفوس ضعيفة اعتنقت الفكر الخاطئ والمفاهيم الوهمية الكاذبة للإسلام.
مواجهة الفكر لا تتم غير بالفكر.. وبالتوعية الحقيقية والدولة التي تدعو إلى تجديد الخطاب الدينى هي نفسها التي تسجن كل من يحاول أن يفعل ذلك بتهمة ازدراء الأديان.. الحل الحقيقى للتخلص من الإرهاب والتطرف هو مواجهته بفكر صحيح مختلف، يصحح للناس المفاهيم الخاطئة في الدين وأولها أن الإسلام لم يدعُ لقتل المختلف أو المرتد ولا تعذيبه «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر».. تتحدث الدولة دائمًا عن تجفيف منابع الإرهاب، فتقضى على الجماعات المتطرفة، وتحاول السيطرة على التمويلات التي تأتى من الخارج لدعمهم، وعلى المنافذ التي يتم تهريب السلاح والبشر عن طريقها، ولكن الغائب هنا أن تجفيف منابع الإرهاب يكون بالقضاء على ما يؤمن به هؤلاء من أفكار يلتفون حولها ويجاهدون في سبيلها، والتجربة أثبتت أن غالبية من قاموا بالمراجعات في السجون قد عادوا لسيرتهم الأولى بعد ذلك، وهو أكبر دليل على فشل الحل الأمنى وحده في مواجهة الإرهاب، لأن هؤلاء كانوا تحت ضغط وقهر السجن والسجان، ولذلك فإن المراجعات لم تكن حقيقية، وبمجرد خروجهم من السجون عادوا لنشاطهم والترويج لأفكارهم مرة أخرى، لأن المراجعة الحقيقية يلزمها مناخ حر أي أن يتمتع الشخص بالحرية فلا يكون مسجونًا، وبالتالى هو ليس تحت ضغط ولا ظروف قهرية جعلته يفعل ما لا يؤمن به وعكس ما يعتقد.. بل إنه يراجع نفسه ويراجع أفكاره باختياره هو لا فرض عليه.. وإذا لم يتم القضاء على الفكرة بتصحيحها فإننا سنظل ندور في فلك الإرهاب ولن ننجو منه.