رأيت منظرًا فى التليفزيون، ولا أذكر فى أى قناة، هزنى من عمودى الفقرى. سيدة متواضعة الملابس كبيرة السن على وجهها أمارات الجدية وهى تقول: «أنا مسامحاهم وبطلب من ربنا أنه يسامحهم» ولم أعرف مسامحاهم على إيه؟ ولا أصل الحكاية لأننى لا أدخل على شبكات التواصل الاجتماعى إلا فيما ندر، ولأن المنظر كان فيه إخلاص شديد من جانب السيدة، فقد سألت أحد أصدقائى فقال لى إنه قد تضاربت الأقوال ما بين العمدة الذى قال إنهم خلعوا طرحتها فقط، وبين من قال إنهم جردوها من ملابسها وسحلوها على مرأى ومشهد من أهل البلد، ولذا فإن اهتمامى ليس منصبًا على الحادث وما جرى، فهذه مهمة الشرطة والنيابة وأولى الأمر، ولكن ما يعنينى هنا هو الموقف الرائع لهذه السيدة التى أعلت التسامح على الانتقام وطلب القصاص.
وفكرت فى أن هذه السيدة المحترمة، قد تكون أمية أو تقرأ وتكتب ولكنها سواء قرأت أو لم تقرأ، فقد نفذت الآية الكريمة «والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين»، وأظن أنها كظمت غيظها قبل أن تسامح، لأن كظم الغيظ لا يمنع الناس من المطالبة بحقوقهم أو القصاص ممن اعتدوا عليهم، ولكن أن تجمع بين كظم الغيظ والعفو عن الناس، فهذا هو «عزم الأمور»، وهذا هو لب الأديان، ولكن أن تطلب هذه السيدة من الله أن يصفح عنهم فهذا موقف إنسانى نباهى به الأمم ويجعلها إحدي أيقونات مصر على مر الزمن.
وبالفعل قال لى أحدهم: «ولكنها كان يتحتم عليها أن تطلب القصاص حتى لا يضار أحد بعدها، بعد أن عرف أن سطوة القانون ستطاله» فأجبته قائلا «بل لقد اقتصت قصاصًا لم يسبقها إليه أحد، فقد وضعت من تقاعس فى أداء واجبه فى موقف لا يحسد عليه، إذ إنها وضعته أمام ضميره، بل ووضعت أمامه مرآة ليرى وجهه القبيح ويحاول أن يصلح من أدائه، عسى أن يتقبل الله منه هذا التغيير، وذلك لأنها رفضت أى نقود بل ووضعت مرآة أمام الإعلام ليرى وجهه الحقيقى، حين رفضت الإدلاء بأى أحاديث، وقد تكون هذه السيدة البسيطة لا تقرأ ولا تكتب، ولكنها جاءت من أعماق مصر وعدم مطالبتها بالقصاص، هو فعل وطنى بدرجة كبيرة للذين يؤمنون بأن كل المصريين إخوة». ولا أظن أن تأثرى بهذه السيدة إلا راجعًا من رغبة فى تحسين أخلاقى الشخصية. فبعد أن رأيت هذه السيدة صرت أراجع أعمالى وما أتفوه به وأظن أنه إذا أتيحت لى الفرصة فى يوم من الأيام أن أذهب لأشد على يد هذه السيدة، وأشكر الله على أنه أنعم علينا بمن يحفز ضمائرنا، لفعلت ولكن ليس فى القريب العاجل، حتى لا يفسر سياسيًا، وحتى لا تظن هذه السيدة أننى كسرت حاجز الصمت الذى فرضته على نفسها، ولكنى وأنا أشيد بموقف هذه السيدة، وأحاول أن أتمثلها فى جميع الخطايا، فلم أكن أتخيل أن هناك من يستطيع أن يسامح ويصفح، ولكن أن تطلب من الله أن يسامحهم على هذا الفعل، فهذا والله يدل على أن مصر بخير وأن شعب مصر هو أجمل وأعظم شعوب العالم. بقى شيء واحد أن يذكر فخامة الرئيس عبدالفتاح السيسى هذه الواقعة ويقول إن المخطئ سيعاقب مهما كان العدد، وكانت كلمته يدًا حانية تربت على رأس هذه السيدة، وتقول إن الأفراد قد يسامحون، أما تسامح الدولة مع المخطئ يقود إلى انهيار الدولة، فلنعلِ جميعًا سيادة القانون ويعاقب المخطئ إذا كان هناك مخطئ.