كنت وما زلت أشبه الكاتب الدرامى بطبيب المخ والأعصاب، فكلاهما يعمل فى أخطر مكان فى جسم الإنسان ألا وهو المخ، واللعب فى المخ أو الدماغ يحتاج لفهم ووعى ودراسة، وليس من المقبول أن تذهب لمهندس بترول مثلا لكى يجرى لك عملية جراحية فى المخ، تماما مثلما لا يصح أبدا أن يمسك بالقلم من لا يعى نظريات الدراما وقوانينها وفلسفتها ليكتب لنا مسلسلا يحمل رؤية مشوهة تساهم فى هدم بنية هذا المجتمع وتضع الكثير من السم فى القليل من العسل، سواء بوعى أو بغير وعى، فى ظل غياب المؤلف المثقف صاحب الرؤية وانتشار ورش التأليف الجماعى والكتابة من الباطن، فالكلمة مسئولية كما جاء على لسان الإمام الحسين فى مسرحية «ثأر الله» للكاتب الراحل عبدالرحمن الشرقاوى، ولأن مفتاح الجنة فى كلمة ودخول النار على كلمة، فإن الكاتب لا بد وأن يدرك خطورة عمله وأنه سيقف حتما يوم القيامة أمام الله تعالى ليسأل عما قدمه للناس، وهل دعاهم إلى ما ينفعهم فى دينهم ودنياهم ونشر فضائل الخير والمحبة والسلام أم ساهم فى إفساد هذا المجتمع ودعا إلى الرذيلة والجريمة والبعد عن القيم النبيلة، والمتابع للوجبة الدرامية الدسمة التى تقدمها القنوات التليفزيونية المختلفة طوال شهر رمضان سيكتشف أننا نعيش حالة من الفوضى أو العشوائية الدرامية والتى تسيطر عليها الإعلانات حتى صرنا نشاهد فترات إعلانية مفتوحة تتخللها بعض الفقرات الدرامية للاستراحة، والمتأمل لطبيعة معظم الإعلانات المقدمة لنا سيدرك أنها تدعو للاحباط وتبعث على الكآبة، فهى تحدثنا عن سرطان الأطفال والتبرع للأيتام وسرطان الثدى وأمراض القلب والكبد ومستشفيات تحت الإنشاء، وكلها تخاطب المشاهد بأن «تبرع ولو بجنيه»، فيهرب المشاهد بحثا عن شىء يتابعه لنجمه المحبوب أو نجمته المفضلة فإذ به يشاهد مقطعا دراميا مبتذلا لرجل يخرج من بطنه الريح لأنه أكثر من أكل الكرنب، أو لأب يدعو ابنته لممارسة الدعارة أو لابن وهو يشتم أمه وينهرها بيده، وفى عالم الدراما أصبح القتل شيئًا سهلًا وبسيطًا وأخذ الحق لا يتم بالقانون بل بالقوة، وأصبح الرجل تافهًا لدرجة أنه يترك عمله وحياته ويتفرغ لمطاردة امرأة متزوجة أعجبته، والأرقام فى عالم الدراما سهلة، فهذا قد جمع مليارًا من الجنيهات وأودعها فى بنك بالمنصورة، وهذا يكسب فى الشهر مائة مليون جنيه!! ناهيك عن الأخطاء الدرامية البشعة التى تنم عن جهل الكاتب وعدم معرفته لأبجديات الدراما، وعن جهل المخرج أيضا لأنه يشاركه هذا الأمر ويقدم لنا أحداثا تعتمد على الصدفة أو فلاش باك لرجل يتذكر أشياء لم يرها ولم يكن مشاركا بها، هذا بخلاف الحوار الساذج الذى يحمل تناقضًا بين طبيعة الشخصية ودوافعها النفسية والاجتماعية، أو ترى الجميع وهم يتحدثون بمفردات لغوية واحدة هى نفس مفردات المؤلف، ولا شك أن هذه الفوضى أو العشوائية جاءت كنتيجة طبيعية لعدة أسباب، أولها سيطرة النجم واختفاء المؤلف الأكاديمى المثقف، وثانيها عدم وجود استراتيجية واضحة للإنتاج الدرامى فى ظل غياب الدولة ورفع يدها عن الدراما، أقول هذا وأنا أحد الذين عانوا لسنوات طويلة من القيود البيروقراطية والتعنت الرقابى والفساد الإدارى عندما حاولت الولوج إلى النور من خلال قطاع الإنتاج أو صوت القاهرة أو مدينة الإنتاج، وظلت الأبواب مغلقة أمامى حتى أعلنت هذه الجهات شبه إفلاسها ليحتل مكانها المنتج الخاص والذى عمل جاهدًا لتلبية رغبة القنوات الفضائية فى تغطية وقتها بالمسلسلات الجالبة للإعلانات، ولعل ربط الإنتاج الدرامى بالإعلان هو الذى أدى إلى ظاهرة سيطرة النجم، وأصبح المنتج يعلن أولًا عن توقيع النجم معه للعام المقبل، أما سيناريو المسلسل فيأتى فى المرتبة الثانية حيث يختار النجم كاتبه ومخرجه الذى يريد، وبالتالى يصبح المؤلف والمخرج أداة سهلة فى يد النجم، فبيده أن يغير الكاتب وقتما يريد مهما كانت قدرته الإبداعية، ونفس الشىء قد يحدث للمخرج إن هو رفض تنفيذ الأوامر، ورغم اعترافى بأننى أحد الذين استفادوا من هذه الفوضى الدرامية إلا أننى أقر بضرورة وجود آلية للقضاء على هذه العشوائية، وإذا كان الرئيس عبدالفتاح السيسى قد وضع خطة للقضاء على المناطق العشوائية ببناء عدة مدن جديدة ونقل سكان العشوائيات بها، فعليه أيضا أن يتدخل لحماية المواطن المصرى من تلك العشوائية الفكرية التى من شأنها أن تدمر عقل ووجدان المصرى وهذا بإصداره لقرار جمهورى بتشكيل لجنة حكماء أو مجلس أعلى تكون مهمته دراسة المضمون أو المحتوى الدرامى المقدم للمصريين والتنسيق بين القنوات المختلفة فى عرض هذا المحتوى وفق المعايير التى يحددها علماء النفس والاجتماع.
آراء حرة
فوضى المسلسلات
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق