تابعت مثل بقية المصريين على اختلاف شرائحهم الاجتماعية وتوجهاتهم الفكرية، الحكم الصادر من القضاء الإدارى بشأن جزيرتى تيران وصنافير، كما أننى توقفت كثيرًا أمام نزيف الفتاوى القانونية، وما أحاط بها من ضجيج ممزوج بالمواقف السياسية، سواء المؤيدة للنظام الحاكم أو المعارضة له، غير أننى سأسير فى اتجاه معاكس تمامًا لكل ردود الفعل الناتجة بالأساس، بناءً على الموقف من سلطة الحكم، فالقضيةعلى الأقل بالنسبة لى، تتجاوز فى أهميتها المزايدات الرخيصة من بعض الأطراف، كما أنها تسمو وتعلو فوق أساليب المكايدة السياسية التى تمارسها أطراف أخرى، باعتبارها من الأمور المرتبطة بالسيادة الواقعية والتبعية التاريخية لهما.
فى البداية علينا أن نعى وندرك أن الحكم القضائى صدر بإلغاء قرار الحكومة فيما يتعلق بالاتفاقية بين مصر والسعودية، بما يعنى أن المحكمة لها اختصاص ولائى فى نظر الدعوى وإصدار الحكم بشأنها، لأنها لم تنظر شأنًا مرتبطًا بأمور السيادة، خاصة أن أمور السيادة فيما يتعلق بالاتفاقيات المبرمة بين الدول، يصدر بها قانون من البرلمان بعد عرضها ومناقشتها، وأحيانا يتم طرحها للاستفتاء الشعبى، فضلًا عن أن المحكمة، لم تقدم فى حيثيات حكمها إجابة شافية قاطعة حاسمة لتساؤلات أرى، ويرى كثيرون غيرى، أن طرحها ضروري ومشروع.
هل الجزيرتان ملك تاريخي لمصر.. أم تتبعان المملكة العربية السعودية؟.. ولو كانت الملكية التاريخية للسعودية.. هل يحتاج الأمر تحايلًا قانونيًا لعرقلة تسليمهما؟
الحكومة منذ اللحظة الأولى، قالت إن الجزيرتين تقعان داخل حدود المياه الإقليمية للمملكة العربية السعودية وفق اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، وحسبما انتهت إليه اجتماعات اللجان التنسيقية بين البلدين، وهى الاجتماعات التى جرى فيها استعراض المكاتبات الرسمية والأوراق التاريخية، فى أعقاب ذلك انصرفت لحال سبيلها دون دراية أنها فتحت باب الجدل والتشكيك على مصراعيه، فهى لم تهتم بالأمر أمام المحكمة أيضا، ولم تقدم ما لديها من أوراق فى مواجهة أصحاب الدعوى.
من الطبيعى أن يعقب حكم مجلس الدولة، ردود فعل مشحونة بالمواقف المتناقضة فى أوساط المهمومين بالشأن العام، ما فتح الباب على مصراعيه أمام المعارضين لكل الأنظمة التى تحكم مصر، للتشكيك فيها، واعتبار أن ما جرى صفقة لبيع الجزيرتين مقابل المساعدات الاقتصادية.
قبل أن نتوه فى مساحة الجدل التى تتسع يومًا بعد يوم بفعل الأداء العشوائى للحكومة وعدم قدرتها على مواكبة الأحداث المتسارعة فى كل المناحى، يمكن لنا جميعًا أن نتفهم بموضوعية،التعارض فى وجهات النظر سواء فى هذه القضية أوغيرها من القضايا، لكن فى المقابل هناك حقيقة غابت عن الجميع فى تلك الأزمة، مفادها لا يمكن لأحد مهما بلغت درجة تجاوزه للمنطق، التشكيك فى المؤسسات السيادية الوطنية الجيش والمخابرات، فهذه المؤسسات الصلبة لن تغض البصر تحت أى سبب ولن تتهاون تحت أى ظرف، إذا حاول أحد مهما بلغ نفوزه، ولو كان رئيس الجمهورية ـ أى رئيس لجمهورية مصر العربية ـ بما له من سلطات دستورية، لن تسمح له بمجرد الاقتراب أو المساس بالسيادة الوطنية، فالأرض خط أحمر، فما بالنا إذا كان الرئيس نفسه ينتمى لهذه المؤسسة، ألم تكن الثقة فى تلك المؤسسات كافية بأن تبعث الاطمئنان فى النفوس، وتؤكد أن ما جرى لم يكن أمرًا ارتجاليًا أو عشوائيًا على الأقل من القيادة السياسية، أنا هنا لا أستطيع الإقرار بأن الجزيرتين مصريتان أو سعوديتان، وربما تبلغ بى السذاجة حدًا غير مسبوق إذا قلت إن كثيرين لم تكن لديهم معرفة باسم الجزيرتين إلا أثناء زيارة العاهل السعودى لمصر قبل عدة شهور، لكنها عادة المصريين «نسير فى ركب الرايجة ونفتى فيما لا نعرف» جميعنا صار يعلم ويعرف الكثير عن الجزيرتين، لكن على أى حال لا أملك سوى توجيه الاتهامات للحكومة فى هذه القضية التى جرى طرحها من البداية بصورة سيئة عبر سيناريو ركيك لا يرقى لمستوى أهميتها، مرورًا بعدم تقديم الأوراق أمام المحكمة.
فى ظل الأجواء الملتبسة والتضارب فى المعلومات حول حقيقة ما جرى بشأن الجزيرتين، لا يمكن بحال من الأحوال إعفاء الحكومة بصفتها المرآة المعبرة عن مؤسسات الدولة من تهمة الفشل فى إدارة هذا الملف، باعتبارها المسئولة وحدها دون سواها عن إثارة اللغط، وفتح الباب أمام المزايدات ليس فى هذا الملف وحده، إنما فى الكثير من الملفات الأخرى فهى غير قادرة على مواجهة الرأى العام بشفافية من ناحية، فضلًا عن أنها لا تتحرك إلا بعد خراب مالطة من ناحية أخرى، والشواهد على ذلك لا تعد ولا تحصى.
منذ البداية جاء تعامل الحكومة مع قضية تيران وصنافير سيئًا للغاية، فضلا عن أنه لا يعبر بحال من الأحوال عن أنها قادرة على تحمل المسئولية السياسية والتاريخية ، هى لم تدرك مدى التغير الإيجابى الذى طرأ على المجتمع، لذا تعاملت مع الأمر كإقرار للأمر الواقع دون تهيئة الأجواء أمام الرأى العام بطرح الإشكاليات التاريخية المتعلقة بالجزيرتين.
الرأى العام كان يتوقع من الحكومة تصريحات مسئولة، قادرة على كشف الغموض وإظهار الوثائق التاريخية بشافية، بعيدًا عن الابتذال، إلا أن أداءها جاء مغايرًا لتوقعات الشارع، ففتحت على نفسها أبواب جهنم وحظيت بحجم هائل من الانتقادات، بلغت فى مضمونها حد الاتهامات والتخوين، فضلًا عن تداول الكثير من الأحاديث الرامية لترسيخ فكرة التنازل عن الأرض أو بيعها.
فى هذا السياق لا أستطيع إنكار أن الجدل حول الجزيرتين تجاوز الحدود المتعارف عليها، فى التعاطى مع القضايا الوطنية ذات الحساسية، ولا توجد حساسية أكثر من الحساسية المتعلقة بقضية الأرض، خاصة لدى المصريين، غير أن الحكومة بكل مستوياتها أعطت ظهرها للجميع، تاركة مساحة الجدل تتسع بصورة غير عادية، مما أتاح الفرصة للعابثين أن يشغلوا مكانها على شبكات التواصل الاجتماعى، فأصبح الإعلام الإلكترونى هو المسيطر على المشهد، أما تصرفات المستويات الرسمية فى الدولة فصارت مجرد ردود أفعال، ليس إلا، وهذه هى الكارثة بعينها.
ألا يمكن التهوين من تداعيات الأزمة خاصة أن الاتهامات المتبادلة بلغت حد التخوين لكل من يرى وفق تصوراته أن الجزيرتين مصريتان، تم التشكيك فى وطنيتهم وانتمائهم، من دون إدراك لطبيعة الشخصية المصرية الغيورة بالأساس على كل ذرة تراب داخل حدود الوطن، فالحفاظ على الأرض بالنسبة للشعب المصرى على اختلاف أجياله وعبر مراحل التاريخ كله، عقيدة والدفاع عنها فريضة راسخة فى الجينات المصرية، لذا فإن التشكيك فى الوطنية هو نوع من العبث يخرج عن الإطار الموضوعى لحرية الرأى ويمتد إلى التفتيش فى الضمائر.